أزمات كثيرة عاشها اللبنانيون في السنوات الثلاث الأخيرة: شحّ الدولار، أزمة الكهرباء، أزمة تأمين الخبز والمحروقات، والقائمة تطول...
ذلك كلّه لم يكن كافياً للّبنانيين الذين يقبعون تحت وطأة الأوضاع المعيشية الصعبة، فجديد مصائبهم اليوم أزمة المياه الحادة، وتحديداً في جنوب لبنان.
فمن القرى المحيطة بصيدا، وصولاً إلى مدينة بنت جبيل والنبطية، مروراً بـ مرجعيون وغيرها، يعيش الجنوبيون أصعب أزمة مياه منذ سنوات. وقد وصل سعر صهريج المياه سعة الـ٢٠ برميلاً في بنت جبيل والقرى المحيطة، إلى ما يُقارب المليون ليرة. والأزمة لا تقتصر على الناحية المادية فحسب، فإذا توافرت الأموال لدى المواطنين يبقى صعباً تأمين الصهاريج، نظراً لازدياد الطلب عليها.
والجدير ذكره أنَّ أزمة المياه في منطقة بنت جبيل ليست وليدة اليوم إنما عايشها المواطنون منذ أكثر من عشر سنوات. الأزمة هذه لم تكن بهذه الحدّة، إلا أنّ ارتفاع أسعار صهاريج المياه وصعوبة تأمينها جعلتها مضاعفة وأكثر حدّة. وهذا ما أكّده لنا الناشط في مدينة بنت جبيل الصحافي حسن بيضون.
الأزمة في بنت جبيل كانت أكثر حدّةً بين المناطق الجنوبية، لكون استجرار المياه يجري من مناطق مختلفة منها مشروع الطيبة ووادي الحجير وغيرها... والمشكلة أنَّ المياه تصبّ في المناطق الأقرب لمصدر المياه، وهو ما يتسبّب بإنقطاعها عن المدينة، أو وصولها يوماً واحداً في الأسبوع.
وما زاد الطين بلّة دخول المحسوبيات والوساطة في عملية توزيع المياه، إذ يعمد بعض موظفي شركة المياه في القرى الجنوبية إلى تحويل مياه الشرب إلى الأحياء التي يسكنونها، أو تلك التي يسكنها أشخاص نافذون؛ وهذا ما شدّد عليه نائب كتلة التنمية والتحرير الدكتور أشرف بيضون، واعتبره أحد أهمّ الأسباب التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم.
اللافت أنَّ أهالي مدينة بنت جبيل المقتدرين مادياً والمغتربين منهم قد بذلوا جهوداً حثيثة، في ظلّ غياب الدولة والمسؤولين، بغية تمويل مشروع افتتاح بئر ارتوازية في المدينة. لكن ما كان غير متوقع أن يتم تحويل ملكيّة البئر إلى ملكيّة خاصّة.
"البئر التي تمّ افتتاحها لا تكفي أهل البلدة، الأمر الذي دفع المواطنين إلى شراء المياه من آبار المناطق المجاورة مثل بئر "أبو عماد" في عين إبل، وبئر "عقل هاشم" العميل السابق لجيش الاحتلال الإسرائيلي في بلدة دبل"، بحسب ما أكد الناشط بيضون، الذي أكّد أن البلدية في بنت جبيل حاولت إيجاد بعض الحلول لكنها لم تفلح، ولم تكن إلا بمثابة "إبرة بنج"، مشدّداً على أنَّ الأمر يتطلّب حلولاً جذريّة.
قسم غسيل الكلى في مستشفى بنت جبيل الحكومي يعاني!
لم تقتصر الأزمة على المواطنين فحسب بل حطت بثقلها أيضاً على مستشفى بنت جبيل الحكومي، الذي يضمّ قسماً لغسيل الكلى، والذي يستفيد من خدماته يومياً نحو 40 إلى 50 مريضاً. لكنّ المستشفى لم يعد قادراً على تأمين كميات المياه المطلوبة يومياً.
هذه المشكلة تطرق لها النائب بيضون الذي أكدَّ على أهمية استمرار المستشفى لكونه المؤسسة الوحيدة في المنطقة التي تمتلك قسماً لغسيل الكلى.
وأشار بيضون إلى أنه بعد الاطلاع على تفاصيل المشكلة، طُلب من مؤسسة المياه في المنطقة الكشف على شبكة المستشفى لإيجاد الأسباب الكامنة وراء انقطاع المياه، فتبيّن أنَّ هناك تسرّباً للمياه في الحقول التي تمرّ فيها الأنابيب، بالإضافة إلى بعض التعدّيات على هذا الخط. وبعد الكشف، تمّت معالجة المشكلة على الفور، لكنّنا بعد فترة قصيرة اصطدمنا بمشكلة انقطاع الكهرباء، وبالتالي توقّفت المضخّات عن العمل.
ولحلّ المشكلة قال: "إنه قد يتمّ اللجوء إلى منظّمة "يونيسف"، التي تبرعت بآليّة لنقل المياه إلى المستشفى، فضلاً عن تبرّع مؤسسة مياه لبنان الجنوبي بتأمين مصدر لتعبئة المياه بشكل مجانيّ للمستشفى".
ثلاثة مصادر للمياه لم تفلح من تخفيف حدّة الأزمة
من جانب آخر، شرح بيضون لـ"النهار" بأنَّ قضاء بنت جبيل يحصل على المياه من ثلاثة مصادر.
أول المصادر وأبرزها يأتي من بلدة الطيّبة، حيث يتمّ استجرار المياه إلى بلدة شقرا لتصل بعدها مباشرةً إلى بنت جبيل. وقال بيضون إنَّ المصدر المذكور كان يغذّي 15 ألف كيلو مكعب من المياه أسبوعياً، ويمتلك ثمانية مضخّات ضخمة.
ولفت إلى أنَّ هذه المضخّات تحتاج لصيانة دوريّة ودائمة، لكنّها مع تفاقم أزمة الدولار، وغياب الإمكانيات المادية، وارتفاع بدلات الصيانة، خرجت ستّ مضخّات عن العمل، لتبقى اثنتان فقط، وهو ما عرقل عمليّة وصول كميّة المياه المطلوبة إلى المنطقة.
والمصدر الثاني من مصادر مياه بنت جبيل يتمثّل بالشبكة الممتدة من منطقة وادي السلوقي. كان الخطّ مخصّصاً للمدينة فقط، وهو يعمل بحدود ست عشرة ساعة يومياً إلى جانب خطّ الطيّبة. لكنّ تعطّل خط الطيبة زاد الضغط على الشبكة ممّا جعل الخطّ الثاني يعمل بمعدّل 24 ساعة في اليوم. وهو ما قد ينذر بتعرّضه لأعطال حتميّة.
وأشار بيضون إلى أنَّ هذا الخطّ مخصّص فقط لمدينة بنت جبيل، ولكنه يشهد العديد من التعدّيات. وهناك خطّ ثالث للمياه، وهو الخطّ الممتدّ من بلدة كفرا الجنوبية.
فساد ورشاوى ومحسوبيّات
لخّص بيضون المشكلات الأساسيّة، التي تتسبّب بأزمة المياه، فوجدها ثلاثة عناصر هي: غياب الكهرباء وارتفاع أجور المولدات، غلاء بدلات الصيانة التي يتم استيفاؤها بالفريش دولار، والمحسوبيات.
وشدّد على أن هناك ضرورة ملحّة من قبل الإدارات المعنية لتخفيف وطأة الأزمة، من خلال وضع حدّ لظاهرة التوزيع الجائر بين مختلف المناطق والبلدات.
وتحدّث بيضون عن عمليات توزيع المياه من خلال الشبكات المتاحة، قائلاً: "إن بعض البلدات تحصل على حصتها من المياه على حساب بلدات أخرى، لا بل تخطت حدود البلدات، وأصبح يتم تحويل المياه لأحياء على حساب أحياء أخرى في داخل البلدة الواحدة، وهو ما أبرز المشكلة بشكل أكبر وأكبر".
ولفت بيضون إلى أنه "يتمّ بذل جهود والعمل على حلّ مشكلة التوزيع الجائر مع المعنييّن، في ظل تفاقم أزمة الدولار وغياب الكهرباء، مع العلم أنه أصبح بالإمكان الاعتماد على عناصر بديلة مثل توليد الكهرباء عبر الطاقة الشمسيّة وغيرها...لذلك لا بدّ من وضع حدّ لهذه المشكلة كخطوة أساسيّة للسير بخطة التعافي من هذه الأزمة".
البلد الغنيّ بالمياه في الشرق الأوسط.. مهدّد بالجفاف
وتطرّق بيضون خلال حديثه إلى ظاهرة انتشار الآبار الارتوازية بشكل عشوائي، قائلاً: "إنَّ العديد من البلدات تستهلك المخزون الاستراتيجي من المياه عبر حفر الآبار الارتوازية بشكل عشوائيّ. وفي ظل غياب الترشيد الصحيح، فإن حرمان أبنائنا والأجيال المقبلة من المياه في المستقبل القريب هو أمر حتميّ".
ولفت إلى أنَّ حفر الآبار لا يشكّل حلاً للمشكلة بل يؤدّي إلى خلق العديد من المشكلات الجديدة، أبرزها ارتفاع أسعار المياه، نظراً لارتفاع تكلفة استحداث الآبار؛ وهو ما يُفسّر وصول سعر صهريج المياه سعة 20 برميلاً إلى 800 ألف ليرة لبنانية.
وشدّد بيضون على أنَّ ما وصلنا إليه اليوم هو بسبب غياب الحلول الاستراتيجية، والاعتماد على حلول موقتة. وأضاف أنَّ السبيل الوحيد لحلّ هذه الأزمة هو تضافر الجهود والتخطيط العملي لإيجاد حلول استراتيجية وجذريّة.
واستخلص بيضون حديثه قائلاً: "إننا بحاجة لتعاون مشترك وفعّال، وبحاجة إلى أن ننظر نظرة استراتيجية لمصلحة الناس، ودون ذلك لا توجد حلول".