من الأجمل أن تكتشف تقاليد المجتمع البيروتي من خلال أمثال يُردّدها العامة في كثير من الأحيان، وفي أحاديثهم المختلفة، وفق المقام، لا سيما في الأوضاع الصعبة حيث "كلّ زمان له دولة ورجال"، أو عند تلخيص واقع الجهل والأمية والرّعب إذ "السياسة ما إلها دين"، أو عندما يُراعي المرء مصالحه، فيردّد وصفاً دقيقاً له قائلاً: "مين أخذ إمّي صار عمّي...".
نردّد أمثالاً بيروتية، وفقاً لما نقلها المؤرخ عصام شبارو، باللهجة العامية لتُعبّر عن العادات والتقاليد والاحتفالات والمعتقدات، بالرغم من أنّها قد تعكس تناقضاً مع فئة محدّدة أو طبقة معيّنة.
كشف سعد الدين فروخ في كتابه "الأمثلة البيروتيّة"، الذي وضعه في نهاية العام 1884، وبعد أن جمع 6354 مثلاً، عن أن "محلة رأس بيروت اشتهرت من دون سائر الأحياء البيروتية بكثرة الأمثال، التي قيلت في سكّانها، وهي تشير إلى البخل والتيسنة مع طيبة القلب وعدم الخبث واللوم، والتمسّك بالأرض...".
وذكر "فقيل على سبيل المثال لا الحصر، قاضينا بيفهم"، مشيراً إلى أنّه "يُقال إن أصل هذا المثل "الطرفة" يعود إلى بعض هؤلاء الأهالي، الذين يحملون إنتاجهم من الحقول والبساتين متوجّهين يومياً من رأس بيروت مع شروق الشمس نحو بيروت القديمة في داخل السور ولا يعودون إلا مع الأصيل..."، و"كانت الشمس تواجههم في الصباح والمساء، فذهبوا إلى القاضي يشكون موقف الشّمس الغذائي هذا، فأشار عليهم بالانطلاق إلى العمل قبل شروق الشمس والعودة بعد غروبها، فعملوا بنصيحته قائلين: "قاضينا بيفهم."".
ولفت إلى أن "هذا القول ذهب مثلاً ودليلاً على بساطة وطيبة أهل رأس بيروت، ولا يزال يردّد حتى يومنا هذا، أهل بيروت تشكّو ع الشمس"، كما قيل عنهم "قمّة شروش ولا قفّة قروش" و"خسّ زراع ولا تبيع أرضك ولا دراع"، وهما يشيران إلى ضرورة التمسّك بالأرض وعدم بيعها...".
ماذا بعد؟ روى فروخ عن "حيّ الدّبش، وهو أحد الأحياء القديمة في محلّة المصيطبة، وهو حيّ بيروتي كان سكّانه يعرفون بالدبّاشة لأنهم يعملون في نقل الدبش أي الحجارة المصقولة بعد أن يتعهّدها الحجّار في مقالعها إلى ورش البناء"، مشيراً إلى أن "هؤلاء الدبّاشة كانوا ينتقلون إلى أعمالهم مع الصباح الباكر، إلا أنّ الدبّاش أبا ديب، فكان لا ينطلق إلا بعد أن يستمتع بنفس أركيلة من التنباك العجمي في حديقة بيته المتواضعة". وقال: "كانت زوجته تحضّه على الخروج باكراً من دون جدوى، حتى خاطبته ذات مرة قائلة: "عيشة الفهيم مع البهيم داء دفين"، فأجابها: "ما في حمار مات، أخد جلالو معو".
أخت الرجال
وأوضح أن "خدرج المصيطبة كانت تُعرف بأخت الرجال، على غرار عدد من النساء اللواتي عرفتهن مختلف أحياء بيروت، وهي أرملة لها ولد وحيد مدلّل"، مشيراً إلى أن "زوجته لتفرح به، كان كلّ سنة يحظى بمولود ذكر وهو قابع لا يعمل، بينما هي التي تحوّلت إلى جدّة، تتحمّل عبء تأمين حاجات البيت". وقال: "عندما سئلت عن حالها وحال أبو الصبيان، أجابت: "عليه التبدير وعليّ التعتير"، فذهب قولها مثلاً".
وتوقف عند "أبو الحسن، الذي كان عاملاً من عمّال مرفأ بيروت"، مشيراً إلى أنه "عند انصرافه، يشتري حاجياته من السوق، ويستأجر حمّالَ سلّ وعربةَ خيل لنقلها"، وقال: "يضع الحمّال والسّل أمام العربجي، ويتربّع هو في صدر العربة منطلقاً إلى بيته في زقاق البلاط قرب المكان، الذي شيّد عليه في ما بعد قصر فرعون".
ولفت أخيراً إلى أن الجيران كانوا ينصحونه بتوفير المال لا تبذيره وكان يردّ عليهم "عمرو ما حدا يورت...".