نبيل قسطه*
منذُ أَحَدَ عَشرَ عاماً، وفي مِثْلِ هذا التاريخ انطلقَتِ الرّحلةُ نحو أُفُقٍ لا محدودٍ، بَلْ لِنَقُلْ: نحو أفقٍ بِلا أُفُق، وهذا لا يعني انطلاقةً في المجهول، بل انطلاقة أشبَه بِحُلُمٍ كان يَنْتَظِر إشارةً من إرادةٍ لِيَبْدَأَ بالتشكُّلِ... وهكذا كان، وبدأَ المشوار تحتَ شعارٍ: "الدَّمْجُ حقٌّ وليسَ شفقة".
كانت كلمة "دمج" غريبةً يومَها، فعملنا مع أفرادٍ ومتطوّعين وجهاتٍ مدنيّةٍ ورسميّةٍ، وفي مقدّمها وزارة التربية الوطنيّة على كَسْرِ هذهِ الغربةِ، وعلى إدخال هذه الكلمةِ إلى قاموسِ التربيةِ وإلى لغةِ التعليم، ولطالما أَعْدَدْنا برامِجَ توعويّة للأهلِ وأولياءِ الأمور وللقيّمين على المدارسِ والعاملين فيها، وحجزنا لهذه الغاية صفحاتٍ ومساحات في وسائل الإعلام والتواصل، رَسَمْنا خُطَطاً، وخصّصْنا موازناتٍ، وَجَهِدْنا في نَشْرِ مشروعِ رسالتِنا في الحقلِ التربويّ-التعليميّ، وفي المعاهِدِ والمدارِسِ والجامعات بغيةَ جَعْلِ قضيّة التلامذةِ ذوي الاحتياجاتِ الخاصّةِ قضيّة مجتمعيّة وطنيّة شاملة، وأغلبُ الظَّنِّ أنَّنا أخرجناها من سجونِ التعتيم والإهمال واللامبالاة، إلى حَيِّز العناية والاهتمام، وأنّنا اقتربنا اليوم كثيراً من تحقيقِ جانب واسع من العدالةِ في هذا المجال...
نَعَمْ، هي رحلةٌ مضنيةٌ وشاقّةٌ لكنَّ أهدافَها الإنسانيّةَ السامية تغلبُ المشقّة بل تولِّدُ منها سلاماً داخليّاً ومتعةً في العطاءِ والعمل، خصوصاً عندما يُزْهِرُ التَّعَبُ ارتياحاً على وجوهِ هؤلاءِ التلامذةِ الذين بدأوا يتغلّبونَ على الصعوباتِ، وبدأوا يشعرون بأنَّهم كسواهم، لَهُم ما لغيرهم، وموجودون حيثُ هم أترابهُم وقد صاروا في قلبِ الحياةِ اليوميّةِ وما عادوا مهمّشين قابعينَ في الزوايا...
هي رحلةٌ قاسيةً تطلَّبَتْ جُهْداً كبيراً وتعاوُناً مُطلَقاً بين الذين أخذوا على أنفسهم الانخراط الكلّيّ في هذا المضمار. وفي ذكرى اليوم الوطنيّ، لا بُدَّ من التعبير عن التقدير الكبير لما بذَلَهُ هؤلاء في غير مجالٍ وعلى غير صعيد حتّى بلغنا مع تلامذتنا إلى حيثُ نحن وإلى حيثُ هُمْ... أَجَلْ، لَمْ يَكُنْ سهلاً على كل الناشطين والاختصاصيين في المؤسسات الموزعة على المناطِق اللبنانيّة أن تشجِّعَ إدارات المدارس على فهمِ أهدافِ الدمجِ وتقبُّلِ فكرتِهِ، وَلَم يَكُن هيِّناً إعدادُ ورَشِ العمل وحلقات الحوار والنقاش والتدريب، كما لَم يَكُن سهلاً تنظيمُ الاحتفالات والأنشطة التثقيفيّة والترفيهيّة لهؤلاءِ التلامذة بمشاركة ذويهم والمرافقين لهم والقيِّمين عليهم.
وَلَعَلَّ أبرز ما توصَّلْنا إليه بنسبةٍ عاليةٍ هو إقناع العديد من الآباء والأمّهات بضرورةِ إجراء تقييم لحال أولادهم، إن لاحظوا أنَّهم يقومون بتصرّفاتٍ غريبةٍ عن المألوف وذلك في مراكز مختصّة تُعنى بهذه الحالات وتعرف ما يجِبُ فِعلُه لمساعدة الولد/التلميذ وللتخفيف عن ذويه. ولو شئنا أن نستذكر ونعدّد ما قمنا به على امتدادِ الأعوام الأحد عشر لطالَ الكلامُ، لكنْ لا بُدَّ من الإشارة إلى حقبة زمنيّةٍ، ليسَ من بابِ المِنّةِ ولا التذمُّر، بل من بابِ رَفْعِ الشكر العميم إلى كل فرد أو مؤسسة خاصة كانت أو حكوميّة، الذين قرَّروا مواجهة كلّ العراقيل والظروف الصّعبة التي فُرِضَت على الشعْبِ اللبنانيّ بدءاً من جائحةِ كورونا مروراً بكلّ الإضرابات وصولاً إلى الوضع الاقتصاديّ-الماليّ القاسي...
لقد قمنا جميعاً بعملٍ مُقاوِم، رافضٍ للاستسلام، حريص على عدمِ العودة إلى الوراء، مُصَمِّم على إعادة ترميم ما نسفتْه كورونا عندما أجبرت هؤلاء التلامذة على العودةِ إلى عزلتهِم وانزوائهم، خائفين مكمَّمين... وأجبرت متابعيهم على زيارتهم في منازلهم ومساعدتهم ما أمكن حيث هم، خصوصاً أنَّ معظم أهاليهم عاجزونَ أحياناً حتّى عن أبسط أشكال المساعدة. أمّا وأنَّنا، بِعَوْنِ اللّهِ، وبعزيمة كل الناشطين وإيمانِهم واقتناعهم برسالتهم وأهدافها، قد تغلَّبنا على هذه المصاعب الجمّة، وقد تمكَّنّا من إيصالِ أفواجٍ من هؤلاءِ التلامذة إلى عتبةِ الجامعة، فيما استطاعت أفواجٌ أخرى إنهاء تعليمها الجامعيّ الخاصّ بِها، وها هي جاهزة للانخراطِ في سوقِ العملِ بحسبِ قدراتِها وتبعاً لكفاءاتِها... وَهُنا يَكْمُن التحدّي الكبير الذي يُرتِّبُ مسؤوليّة كبرى على كلٍّ مِنّا وتحديداً على أربابِ العملِ في سائرِ المجالات...
وَهُنا أيضاً يبرزُ السؤال العريض: كيفَ نفيدُ هؤلاء؟
وكيفَ نجعَل المجتمع يستفيد منهم؟
كيفَ نكون لهم وليسَ عليهم؟
وماذا ننتظر لنقتنع ونصدِّق أنَّ أصحاب الاحتياجات الخاصة يملكون قدرات ومهارات تمكّنهم من الإنتاج في غير مجال؟
لقد حانَ الوقت لتبديل نظرتِنا إليهم، فهُم، وإِنْ لم يُعَبّروا جهاراً وصراحةً، فإنَّهُم باتوا في صميمهم يرفضون البقاءَ عالةً على المجتمع، هم يريدون التحوُّل إلى دعامة ولو بسيطةً ومحدودة، هم يريدون المشاركة في الإنتاج قبل الاستهلاك.
نعم، لقد آن الأوان لندرك أنَّ رحلة الأَحَد عشر عاماً كانت رحلةً تحويليّة حيث تحوَّل في خلالها مَن كان نكرة إلى معرفة، ومَن كان مجهولاً إلى معلوم، وجاهلاً إلى عارِف وقاصراً إلى قادر... وَمن كانَ عِبْئاً صار صاحب هِمّةٍ يريدُ عملاً يُثَبِّتُ فيه ذاته... وحَريٌّ بكلّ منّا أن يعي هذا الأمر.
وبناءً على ذلك، وفي ذكرى هذا اليوم الوطنيّ، أدعو جميعَ أرباب العمل إلى إعطاء فرصة لأصحاب الصعوبات التعلّميّة، ليس من بابِ الشفقة وعملِ الخير بل من منطقِ أنَّ العمل هو حقّ لكلّ إنسان وليسَ إحساناً.
*أمين عام المدارس الإنجيليّة