النهار

بعد أكثر من عامين على تفجير المرفأ... حكايات من قلب المأساة والعودة إلى الحياة لا بدّ حاصلة
المصدر: "النهار"
بعد أكثر من عامين على تفجير المرفأ... حكايات من قلب المأساة والعودة إلى الحياة لا بدّ حاصلة
مشهد من بيروت.
A+   A-

 مرّ عامان على فاجعة مرفأ بيروت، واحد من أكبر الانفجارات غير النوويّة في التّاريخ. الضحايا بالمئات والجرحى كذلك. خسائر مادية لا تُحصى. منازل وشركات تهدّمت، شوارع التحفت السواد لفترة طويلة، بعد رحيل ناسها وروّادها ومثقفيها، لتبقى عين الله حارسة، أمينةً، على تاريخ عبّرت عنه ولا تزال، منطقة الكرنتينا، الرميل، المدوّر، الجميزة، مار مخايل، وصولاً إلى الأشرفية.

 

حكاياتٌ وما أكثرها، عن هذه البقعة الصامدة من لبنان، في كتب التاريخ والجغرافيا، وفي سطور ستُكتب للأجيال القادمة. عن ناس، تعرضوا مرّات ومرّات للقصف والدمار، وكانوا كل مرّة يقومون. والآن، ها هم يقومون ينفضون الغبار. أليسوا أبناء بيروت؟ العاصمة، التي قامت وستقوم من تحت الأنقاض، وثورتها التي ستولد من رحم الأحزان.

 
 أحد المطاعم في منطقة مار مخايل المتأثرة بالانفجار.

 

الإصرار على العودة

يقول العارفون في المنطقة، إنّ الخروج إلى الحريّة من جديد والعودة إلى ممارسة الأعمال، أمر لم يكن سهلاً. في الماضي، كانت المناطق مقفلة، كنّا نحمي أنفسنا. في عزّ الحرب كان الإنسان يشعر بالأمان أكثر، ففي النهاية كنا في حالة حرب، وأخذ الاحتياطات أمر واجب. 100 ألف صاروخ أسقطها نظام الأسد على الأشرفية، ورحل خائباً. أمّا اليوم، فالجرح أكبر، ليس لأننا خائفون أن نصمد، بل لأنّ أبناءنا سقطوا شهداء في أيام السلم، وهذا مبكٍ. في حين، هناك من يعمل على محاولة طمس التحقيق لا بل دفنه في أعماق البحر.
 
اليوم، هناك تصميم على العودة إلى الحياة، وإلى الحرية. ولو على مهل. لا شك كان للجمعيات الخاصة والمساعدات الدولية والتقديمات الخارجية والأموال الاغترابية دور كبير في بقاء أهالي مناطق المرفأ، فعادت الحياة إلى الجميزة ومار مخايل والمدور والرميل والأشرفية والكرنتينا بنسبة 70%. ومن يزور الشوارع هناك، يمكنه الشعور بالايمان الذي ينبض لدى هؤلاء الأهالي، والإرادة التي لا تنضب، ولو أنّ آثار التفجير ما زالت ماثلة في العديد من الأبنية الشاهدة على حجم الجرم الذي لحق ببيروت ولبنان.
 
المطاعم ترحّب بزوارها. السيّاح الأجانب يرتادون المقاهي كالعادة. شقراء حريرية تحمل كاميرا الذكريات التي تنقلها إلى فرنسا، كي لا تنسى ما مرّ على بيروت، معبّرة عن حزنها وتضامنها في آن مع وعلى شعب لبنان. الفاليه باركينغ ينغل في الشوارع، وكأنه بات من التقاليد اللبنانية. قهوة القزاز تغيّر اسمها منذ زمن، يوم كان يقصدها الشيخ بيار الجدّ لأخذ استراحة. كثير من القيادات ورموز الحرب كانوا في الماضي في هذا الشارع، الشفتري، حبيقة، و"الباش" مرّ من هناك.
 
"لو شيف" المطعم المتواضع، واللقمة الطيبة، يستقبلك بثقة. "عود إنت جديد ما رح تطلع مش مبسوط". هكذا يرحّب بك صاحب المطعم، ويطلب منك اختيار طعام من اللائحة، وقبل أن تسنح لك الفرصة لقراءة لائحة الطعام، يقول لك وهو يسير داخل المطعم، "ما توجّع راسك كل شي عنا طيب".
 
تستوقفك داخل المطعم صورة للممثل الأميركي Russel crowe، ممهورة بجملة، شكراً لك. سألنا صاحب المطعم عن سبب الصورة. فجلس بقربنا، وبدأ يسرد الحكاية والسرّ.
 
تخرج من المطعم، تتوجه صوب المحلات، ألعاب، سمانة، كتب... كلمة واحدة قاسم مشترك بين الجميع، متل ما الله بريد. اتكالنا ع الله وإلاّ ما بقينا هون وما كمّلنا. السيّدة أوجيني ح. وعمرها نحو 73 عاماً، تقول: "يا ابني لو بدنا نفلّ فلينا من زمان، الأقوى منن ما فلّلنا هني ما رح يجبرونا نفلّ. مرق الكتير، والإيام اللي جايي مع يسوع أحسن من يللي راحت".
 
محال الذهب ايضاً لها رونقها وخبريات طوني ع. التي لا تُمِلّل. يفتح لك باب مصنعه المتواضع. غرفة حطّمها الانفجار، فأعاد ترميمها بصورة فنية رائعة. الجرائد القديمة تغطي الجدران، "تلفونات وأجهزة راديو" أيام زمان، والدكتيلو وكتب هتلر، وديسكات لفيروز وأغاني الزمن الجميل.
 
إيجابية الجمعيات وسلبياتها
هذه العودة إلى الحياة من جديد، لم تكن بسبب الجمعيات الخاصة فقط، بل كان للمبادرة الفردية دور مهم. أحد الذين شاركوا كمندوب في إحدى الجمعيات، يروي لـ"النهار" أن "هذه الجمعيات كان من الضروري أن تصرف المساعدات لكي تستفيد هي بدورها من عملية جني الأموال. وهكذا سارت العملية. والإفادة الأكبر كانت للقيمين على هذه الجمعيات لأن القليل وصل إلى الناس. والاستثناء كان فقط عندما تأتي المساعدات من مصادر موثوقة كالجيش أو الصليب الأحمر أو عدد من الجمعيات المحترمة، إذ لا يجوز التعميم".
 
فعلى سبيل المثال، وزع "الصليب الأحمر اللبناني" 11,535 بطاقة ماليّة على العائلات المتضررة استفاد حامل البطاقة شهرياً من مبلغ قدره 300 دولار أميركي على مدى 7 أشهر. وقد انتهى برنامج الدّعم الماليّ هذا في تشرين الثاني 2021.

كذلك ، وبحسب معلومات "النهار"، تمكنت الطواقم الميدانيّة التابعة لـ"الصليب الأحمر" من تأمين 156 مأوى للعائلات المتضرّرة استفاد منها 1038 عائلة. كما تم توزيع 3217 وجبة أكل ساخنة.
 
إضافةً إلى ذلك، أجرى الصليب الأحمر اللبناني مسحاً ميدانياً والتقى نحو 60 ألف عائلة حيث تم تقييم وضعها جراء الانفجار. وقام بتوزيع 11956 حصّة غذائيّة و10045 حصّة نظافة. وساهم  في ترميم 780 منزلاً متضرّراً بشكل بسيط من ضمنها عدد من المحلاّت.
 
بدوره، وزع "الجيش اللبناني" ما مجموعه 150 مليار ليرة على المتضررين، التي وصلت إلى خزينته على دفعتين، الأولى بقيمة 100 مليار ليرة والثانية بقيمة 50 مليار ليرة، وتمّ حصر التعويضات بالأضرار التي لحقت بالمنازل دون غيرها من الأضرار الأخرى كالسيارات أو أثاث البيوت وغيرها.
 
وكانت الأولوية في توزيع هذه المبالغ للوحدات السكنيّة الواقعة ضمن المناطق الأكثر قرباً من مكان التفجير. وقد أعطيت الأولوية أيضاً للأضرار الأكثر إلحاحاً أي المنشآت من زجاج وأبواب وشبابيك، كي يتمكّن أكبر قدر ممكن من المتضررين من إصلاح منازلهم والسكن فيها.
 
استراتيجية السماسرة
وضعت الجمعيات استراتيجيتها وحددت الأولويات وبدأت تقديم المساعدات المالية للعديد من المتضررين شرط أن يكون الاسم وارداً في سجلاتهم. ومعلوم ان بعض الناس استفادت بعائدات أكبر نظراً لكبر حجم أعمالها، إذ كلما كان حجم العمل واسعاً كلما كبر الضرر، كلما زاد المبلغ الذي يتقاضاه المتضرر.
 
بعض الجمعيات عمد إلى تقديم مساعدات عينية. بعضها الآخر قدم مساعدات مالية تراوحت بين 2000 دولار و 5000 دولار فريش. اللافت في عمل هذه الجمعيات، وجود سماسرة، يتولون الملف بكامله، شرط حصوله على مبلغ من المال يصل إلى 1000 دولار على كل ملف.
 
ويقول أحد أصحاب المصانع في شارع الجميزة: "حصلت على مبلغ 5 آلاف دولار كمساعدة على دفعتين، عبر سمسار، مقابل حصوله على ألف دولار، وعلى دفعتين. لم نكن نعرف حتى اسم الجمعية، أتى أحد الأشخاص ويدعى مصطفى، وعبأ لي استمارة مع "كود" أستطيع من خلاله قبض المستحقات".
هي الشطارة اللبنانية كما يسمونها. وبعض أمثلتها أن أحد شبان "الفاليه باركينغ" كان يتباهى بأنه خبّأ في منزله نحو 120 ألف دولار من أموال الجمعيات فقط. 

 

 

أحد المباني في منطقة الاشرفية

عمليات الترميم

 تم الاهتمام أيضاً بالأبنية الأثرية، ومعلوم أن الأبنية التي كانت أصلاً مخلخلة منذ زمن بعيد لم تستطع الصمود أمام قوة الانفجار. عملت جمعيات ووزارة الثقافة على تدعيم المباني المهددة بالانهيار والمصنفة أثرية. تم ترميم قصر الليدي كوكرن، أو المعروف بقصر سرسق.

 
بعض الأبنية كانت ما زالت مدمرة منذ زمن الحرب، فكانت لهم فرصة 4 آب لترميمها. وركّز عمل الجمعيات بشكل أساسي على المحال التجارية الصغيرة (فرن، كوافور، محل سمانة، سناك، محل ألعاب...) من أجل سرعة الدعاية، وتحريك العجلة الاقتصادية.
 
كان لافتاً خلال عملية المساعدات، الخلاف الكبير الذي حصل بين المستأجرين القدامى وأصحاب الملك. والحالة، بحسب ما كشف أحدهم لـ"النهار"، تمثلت بأن المالك قبض من الجمعيات على الترميم فيما المستأجر لم يقبض أي فلس.
 
كلام الناس
وفي إطار جولتنا، كان لابد لنا من زيارة بعض البيوت، والاستماع إلى ما يمكن أن يحدثونا به بعد سنتين على الانفجار.
 
"الصّيفي"
بدأنا المشوار من الصيفي، حيث قال لنا زياد الرجل السبعينيّ إن "الجمعيّات نصبوا لشبعوا وفلّوا".
 
يتحدّث زياد الذي خسر منزله جرّاء الانفجار وانتقل للعيش في منزل شقيقته، عن الجمعيّات التي تهافتت على أساس مساعدته ولم يلقَ منها أي خدمة. ويضيف: "الكثير من الجمعيّات أتت ودوّنت إسمي وأخذت كل المعلومات، ولم أنل سوى بعض المساعدات الغذائيّة ومبلغاً بسيطاً لا يكفي حتى لتغيير زجاج المنزل". وتابع: "كل هيدا نصب واحتيال ليقبضوا مصاري ع كل اسم بدوّنوه". زياد، الذي شكر مؤسسة الجيش التي بادرت بمساعدة ماليّة ضئيلة جدّاً، هو فاقد الأمل اليوم بكل غدٍ آت، وهو يمضي أيامه في منزل شقيقته على أمل العودة يوماً إلى منزله في الصيفي.

 

 

 

"الكرنتينا"

من جهته، العم أحمد كان يعيش بالقرب من المرفأ، واثر الانفجار تحطّم منزله بالكامل، فانتقل إلى منزل مهجور. وبعد حديثنا معه قال: "تعالجت نفسيّاً من قبل جمعيّة "أطبّاء بلا حدود" وتلقيت مساعدات ماليّة من عدّة جمعيّات مثل "المساند" و"زيتوني" ولكن لم يتمكن أحد أن يؤمّن لي منزلاً لأسكن فيه. ومنذ الانفجار حتى الآن هناك جمعيّات تؤمّن لي وجبات الغذاء يومياً".
 
وفي مشهد مؤثّر جداً دخلنا إلى المنزل لنرى دماراً شاملاً وبيتاً لا يليق بالسّكن أبداً. لا شبابيك تقيه برد الشّتاء ولا باب. بالمعنى الأوسع، نعيش في دولة لا رحمة لدى مسؤوليها ولا إنسانية.
 
"الرميل"
إلى الرميل، حيث ادلى فؤاد وهو صاحب أحد المتاجر في منطقة الرميل بكلام حسرة: "نحنا المحلاّت ما حدا ساعدنا". وأكمل حديثه قائلاً: "الجيش اللّبناني وعدنا بالمساعدة، لكنّنا لم نتلقَّ أياً منها، فقد قدّموا مساعدات للمنازل أمّا المحلاّت التجاريّة فلا". أضاف: "نحن كتجّار كيف نستعيد عملنا ونعوّض الخسائر في ظلّ الوضع الاقتصاديّ الذي نعيش فيه؟".
 
وتابع: "كنت أمتلك محل زهور كبيراً، لكنني بعد الدّمار الذي وقع، فقدت الإمكانيات لترميمه وتعويض الخسائر واستيراد بضائع جديدة من الخارج، ما أدى إلى تحويل المحل من زهور إلى بقالة". وختم حديثه ملقياً باللوم على الدولة الغائبة عن هموم الناس. 
 
 

"كرم الزيتون"

استكملنا الجولة على أهالي الأشرفيّة، ووصلنا إلى منطقة كرم الزّيتون. تحدّثنا إلى سيّدة أخبرتنا أن "منطقة كرم الزيتون تلقّت مساعدات من عدّة جمعيّات". منها "الصّليب الأحمر اللّبناني"، ومؤسسة مي شدياق، لكن جاءتنا الكثير من الجمعيّات وكانت وعودها كاذبة وكانوا يوهموننا عبر تسجيل أسمائنا وأخذ بياناتنا ولكنّنا لم نتلقَّ أي شيء. ومنذ سنة حتّى الآن، توقفت جميع الإعانات حتّى الحصص الغذائيّة التي كانت تقدم".
 
لا يعيش أهالي المنطقة المجاورة لمرفأ بيروت بأحسن حال. حتى من بادروا واستعادوا نشاطهم وأعمالهم، هم يعضّون على الجرح "ت يقطع القطوع"، وكيف بمن لم يعيدوا فتح متاجرهم وأعمالهم أقفلت، وفقدوا كل إمكانيات العيش والعمل والعودة إلى الحياة. التجربة الإنسانية بعد تفجير مرفأ بيروت أثبتت بما لا يقبل الشك أن جزءاً عظيماً من الشعب اللبناني هو فاسد، فكيف الحال بالحكام الذين أتى بهم هذا الشعب. المسؤولية اليوم كبيرة، ولا ينتظر شعب هذه المنطقة آمالاً ممن كان متورطاً بشكل أو آخر بجريمة المرفأ، بل ممن يحملون لواء السيادة والتغيير والاستقلالية. 


اقرأ في النهار Premium