"إلى العالَم... كنتَ قاسياً إلى حدٍّ كبير ولكنّي أسامح.
حاولتُ النجاة وفشلت، سامحوني.
إلى أصدقائي،
كانت الحياة قاسية، وأنا أضعف مِن أن أقاومها، سامحوني.
إلى العالم،
كنتَ قاسياً إلى حدٍّ عظيم، ولكني أسامح".
هكذا أرادت سارة حجازي إنهاء رحلتها في هذه الحياة قبل عامين، تاركة رسالة قصيرة للجميع. اعتذرت إليهم لفشلها في النجاة، ثَم للأصدقاء الذين يعرفون قساوة الحياة عليها وما مرّت به من ألم طالبةً منهم السَّماح؛ وإلى العالم أخبرته بحقيقته القاسية والظالمة، ولكنها سامحته. أرادت الرحيل بهدوء وسط كلّ هذا الضجيج، فأنهت حياتها لتتحوّل رمزاً لمجتمعات تكبت خيارات أفرادها. اليوم استذكر ناشطون كثر سارة في ذكرى رحيلها الثانية.
فمن دون سابق إنذار، أجبرتنا سارة على قراءة رسالتها والالتفات إلى قصّتها. بكلمات قليلة أوصلت صرختها وحجم القهر الذي وقع عليها، تاركة رسالة مدوّية بجملٍ مختصرة، شرحت حياتها وما عانته من مجتمع متنمرّ، وجد في قصّتها مادّة جدليّة منذ إعلانها ميولها الجنسيّة، في 2016، قبل أن تعتقل لـ3 أشهر، ويُفرج عنها في 2018 لرفعها علم المثليّة في حفل غنائيّ لفرقة ليلى، حين اتّهمت بالانضمام إلى جماعة محظورة تروّج "للفكر المنحرف"، ولتتعرّض للتحرّش في داخل السّجن حتّى من السّجينات، وكأنّ التحرّش ليس بالفكر المنحرف.
اعتقال سارة بسبب ميولها الجنسيّة كان له الوقع الأكبر على حياتها والتجربة الأصعب، بحسب وصفها، لتكتب من داخل سجنها: "بين جدران سجن، وبين قسوة هجمات وطن، وحتميّة الصّراع من أجل أنفسنا، من أجل اثنين عاجزَين عن رؤية الشّمس، وسط كلّ هذا، كنت أنا وأحمد علاء (متّهم معها في القضية) كلّ ما نتمنّاه هو حضن الأم. ورغم وجودنا في داخل السّجن، والدولة التي تعبر عارية أمامي داخل هذا السجن بسبب فشل في قبول اﻵخر واحترامه، رغم خيبات اﻷمل والإخفاقات، نواصل الحياة".
كلّ ما تمنّته هو حضن أمها، ومواصلة الحياة، قبل أن تضطر إلى الهجرة بسبب الحملات الممنهجة عليها، والتشهير بها، (يمكن الإطلاع على عيّنة من التعليقات على صورها بعد وفاتها لنفهم حجم التنمرّ الذي نزل بها في حياتها ودفعها إلى محاولة الانتحار سابقاً، ثمّ لتتمكّن من الوقوف مجدّداً ومواصلة الحياة بصعابها).
كمّية الحقد عليها وعلى قصّتها تُستكمل حالياً، رغم مسامحتها الجميع، من مجتمع يضع لنفسه الحقّ بالتهجّم على المختلِف عنه، والتشهير به واختراق حياته؛ هو نفسه من يستمتع بالمشاهد السّاخنة للممثلات على المواقع الإباحيّة، فيفرغ شهوته هناك، وبعدها يعرض عضلاته على صفحات مواقع التواصل الاجتماعيّ.
وجّهت سارة برحيلها صفعة للجميع. منهم من اعتبرها مرتدّة وكافرة، مطلقين الأحكام عليها من منطلق دينيّ، واضعين أنفسهم مكان الله، مكملين بالوتيرة التصاعديّة نفسها على كلّ شخص لا يتماشى مع آرائهم السياسية والعقائدية والجنسيّة، حتى أصبح التنمرّ أمراً عادياً ومحقاً؛ فكيف إذا كان الأمر بفتاة أعلنت مثليّتها الجنسيّة؟!
جرأتها في الإعلان عمّا تشعر به وتكنّه لجنسها وضعها تحت الأعين لتُصبح تهديداً للأمن القوميّ، فتُسجن ثمّ تُهاجر بعيداً من عائلتها ومجتمعها. كلّ ما طلبته احترام خياراتها، لتُشَنَّ عليها حربٌ منذ سنوات، قاومتها لتسقط بعدها بشباك الاكتئاب والإحباط واليأس، وترحل من منفاها في كندا، واضعة إحدى صورها معلّقةً عليها: "السما أحلى من الأرض، وأنا عاوزة السما مش الأرض".
كلماتها هذه يُمكن اعتبارها إخباراً للمجتمع. نقلت ما يُعانيه مئات الملايين حول العالم من ضحايا التنمرّ في مختلف القضايا. أرادت البوح بأنّ الكلمات الحاقدة التي يتفوّه بها شخص، ويعتبرها عادية ومحقّة، يُمكن أن تدفع شخصاً إلى الانتحار، ورفضِ الحياة بالرغم من أنّه كان مفعماً بالطاقة والتغيير والحبّ.
سارة عيّنة صغيرة من شرائح كبيرة في المجتمع قرّرت تحدّي القواعد، ودافعت بشراسة عن معتقلي الرأي، ووجدت في غيفارا وفيروز أيقونتين. جمعت على طريقتها ما بين الثورة والحبّ. أرادت إيصال وجع الحقد الاجتماعيّ بأسلوبها السلس والبسيط. رأت في العالم الآخر مكاناً أجمل... فرحلت.