تأثر القطاع التربوي بالأزمة الاقتصادية، وخلّف معه ويلات منها ما أدّى إلى زيادة عمل الأطفال في لبنان. آلاف الأطفال يعملون، فيما لا ذنب لهم سوى أنّهم وُجدوا فجأة مرغمين على دخول سوق العمل وترك مساحة لعبهم وأقرانهم.
وفيما أقرّت الدولة قوانين للحدّ من عمالة الأطفال وصادقت على اتفاقيات دولية تُعنى بحقوق الطفل كاتفاقية حقوق الطفل التي صادق عليها لبنان عام 1991، فإن المشهد يزداد سوءاً مع تردّي الحال الاقتصادية.
كيف أثّرت الأزمة على أطفال لبنان؟
رئيسة وحدة مكافحة عمل الأطفال في وزارة العمل، نزهة شليطا تورد في حديثها لـ"النهار" أنّ "نسبة الأطفال اللبنانيين العاملين في لبنان بلغت 40 في المئة، فيما كانت العام الماضي 30 في المئة، والرقم سيزداد طبعاً مع استفحال الأزمة أكثر. وفيما هناك علاقة وثيقة بين عمل الأطفال والتربية، أدّى التسرّب المدرسي إلى زيادة هذه النسبة، فعندما تتوافر مقاعد دراسية للجميع لن نجد طفلاً واحداً يعمل"، و"المؤسف أنّ أهالي كثيرين هم مَن يدفعون بأولادهم إلى اللجوء إلى الشارع لطلب المال". كذلك، نسبة 90 في المئة من الأطفال العاملين في لبنان، هم في القطاع غير المنظَّم.
إلى ذلك، تزداد نسب الأطفال العاملين إناثاً وذكوراً بنسب هائلة في مختلف قطاعات من الزراعة وورش البناء والعاملين في الشوارع أو في كاراجات تصليح السيارات أو في المتاجر أو خدمات المنازل والكسارات والمطاعم وغيرها، ومنها أعمال خطرة ومنها من أسوأ الأشكال.
تصوير حسام شبارو
وفيما كان التقدير النسبي في 2016 حوالي 100 ألف طفل عامل في لبنان، "من المؤكد أنّ هذا الرقم تضاعف إذا ما أخذنا في الاعتبار الأطفال العاملين في الشوارع الذين يُقدّر عددهم بحوالي 15000، إلى جانب الأطفال العاملين في القطاعات المختلفة"، وفق شليطا.
وفي تقييم لوضع الأطفال العاملين في لبنان، يزداد عدد الذين يعملون في أسوأ أشكال الأعمال من الدعارة والمخدرات، وهي منتشرة كثيراً على الأراضي اللبنانية، خصوصاً في مخيمات النازحين السوريين. وفيما نسبة الأطفال اللبنانيين أقلّ، فإنّها في ازدياد. "فما يحدث حالياً على نطاق واسع في لبنان هو أسوأ أشكال عمل الأطفال"، وفق شليطا.
وزارة العمل هي المعنيّة المباشرة بالقضاء على عمل الأطفال من خلال وحدة مكافحة عمل الأطفال والتفتيش. وبينما دور وزارة العمل يقوم على تسيير دوريات تمدّها بالبيانات والمعطيات ليقوم جهاز التفتيش فيها بالإجراء اللازم وفقاً للحالات، تواجه وحدات الوزارة، كسائر الإدارات الرسمية، تداعيات الأزمة الراهنة. ففي غياب الإمكانيات البشرية والمادية، أقفلت مراكز الوزارة على امتداد الأراضي اللبنانية.
تصوير حسام شبارو
أعمال أطفال مستجدّة
من جهتها، تقوم وزارة الشؤون الاجتماعية بمتابعة الأطفال بمختلف حالاتهم الاجتماعية، عبر المجلس الأعلى للطفولة لديها. وتوضح الأمينة العامة للمجلس في الوزارة ريتا كرم لـ"النهار"، أنّه "بعد الأزمة، لاحظنا ارتفاعاً في نسبة عمالة الأطفال، ومعظم طلاب المدارس الرسمية، وبحكم إضراب الأساتذة الطويل الذي جرى أواخر العام الماضي حتى أوائل العام الحالي، لجأوا إلى العمل خلال هذه الفترة". وهنا تتحدّث كرم عن عدّة أنواع استجدّت، وتلحظها من خلال عملها على الأرض:
- الأولاد الذين كانوا في مدارس خاصة أو شبه خاصة، وبسبب عدم قدرة أهاليهم (ولا سيما موظفي القطاع العام) على تسديد أقساط مدارسهم، يحوّلونهم إلى سوق العمل لمساعدتهم في تأمين الإنفاق على المنزل.
- عمل الأطفال عبر الإنترنت، سواء الذين يتوجّهون نحو التدوين، أو الحصول على المال عبر المنصات مثل "تيك توك"، ويصبحون عرضة للخطر، وهم معظمهم في مدارس خاصة وبدأوا بأعمالهم على الشبكة والتجارة أونلاين. في هذا الإطار، وللحدّ من الأخطار التي قد تلحق بهم، قام المجلس الأعلى للطفولة بالتعاون مع الرابطة المارونية بمشروع "أطفال مميزون روّاد أعمال". وفي زيارة لثماني مدارس خاصة، وجد المجلس أنّ هناك 16 طفلاً يعملون "أونلاين" دون مراقبة أهاليهم، و"هو أمر مقلِق، فالمال بيد الأطفال يدفعهم إلى ترك تعليمهم، إلى جانب أنواع أخرى من المخاطر، كالابتزاز والخروقات الرقمية والاستغلال الجنسي، وغيرها من الأخطار"، بحسب كرم.
- أطفال وقعوا ضحيّة الاستغلال الجنسي وبدأوا ببيع أجسادهم مقابل المال أونلاين. وهنا ندخل في أتون الابتزاز والمخدّرات والانتحار الذي يتعرّضون له.
- استغلال الأهالي للأطفال الصغار بهدف الشهرة على منصّات التواصل. وهو أمر يرتدّ سلباً على الأهالي وعلى الأطفال معاً، فعندما يكبرون يتعرّضون لأزمة نفسية.
كذلك، بحسب كرم، "فإنّ وزارة الشؤون تدعم الأطفال عبر دعم الأسر من خلال الخدمات الاجتماعية عبر مشروع الأسر الأكثر فقراً وبرنامج أمان، وتعمل بنظام الإحالة ما بين وحدات الوزارة لحالات معينة من الأطفال لتأمين الخدمات اللازمة والمناسبة لكلّ منها، وعبر نظام الإحالة بين الوزارات، وهي آلية في طور الإعداد، كلّ ضمن نطاق عملها"، وفق كرم. أمّا في ما يتعلّق بأطفال اللاجئين، فهناك لجنة مؤلفة من منظمات دولية وجمعيات أهلية تديرها الوزارة لإحالة حالات الأطفال في جميع المناطق إلى جمعيات مختصة.
تصوير حسام شبارو
زيادة أرقام الأطفال اللبنانيين العاملين
إلى ذلك، تعمل المنظمات الدولية والمحلية على الحد من عمل الأطفال. وقد أظهر تقييم أجرته "اليونيسف" على الأطفال في عام 2021 أنّ نسبة العائلات التي أرسلت أطفالها للعمل في لبنان ارتفعت إلى 12 في المئة في تشرين الأول 2021، بعدما كانت 9 في المئة في نيسان 2021. وبالنسبة للأسر اللبنانية على وجه التحديد، زادت هذه النسبة سبعة أضعاف، لتصل إلى 7 في المئة.
ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية والمالية المعقدة في لبنان في عام 2022 بسبب الجمود السياسي وتدهور الاستقرار الاجتماعي والأنظمة العامة، استمر لبنان في استضافة أكبر عدد من اللاجئين، فازداد إرهاق نظام الخدمة العامة المرهَق أساساً.
وفي حديثها لـ"النهار"، توضح نائبة ممثل اليونيسف في لبنان إيتي هيغينز، أنّه "في النتيجة، أدّت الأزمات المتفاقمة في لبنان إلى غياب الخدمات الأساسية مثل الرعاية الصحية والتعليم وغيرها من الأزمات الاجتماعية، ما أدّى إلى تفاقم عدم المساواة بين الأفراد". بالتالي، انعكس هذا الواقع على التعلّم، بحيث منع الأطفال من الوصول إلى المدارس بسبب إغلاق المدارس وكذلك بسبب ارتفاع التكاليف وزيادة الفقر، ما أدّى إلى خفض الأولوية للتعليم، وتعطّل تعلّم الأطفال في جميع أنحاء لبنان". و"لمواجهة الأزمات، ولأنّ الوصول إلى الخدمات الاجتماعية بات محدوداً بسبب الأزمات، لجأت العائلات إلى استراتيجيات المواجهة السلبية مثل عمالة الأطفال، وزواج الأطفال، والعنف الذي أدّى إلى تفاقم مخاوف حماية الطفل الحالية في المجتمعات. لذلك، احتاج أكثر من مليون طفل إلى خدمات الوقاية والاستجابة للحماية المتخصصة في جميع أنحاء لبنان.
تصوير حسام شبارو
يحصل العديد من الأطفال المنخرطين في عمالة الأطفال في لبنان على خدمات مختلفة مع "اليونيسف" وشركائها في لبنان، مثل التعليم، بحيث تدعم "اليونيسف" وزارة التربية والتعليم العالي لضمان حصول المدارس العامة على ما تحتاج إليه لتوفير تعليم شامل وعالي الجودة، إلى جانب دعمها الشباب والمراهقين غير الملتحقين بالمدارس أو المعرّضين للخطر، في الوصول إلى بناء المهارات، من المهارات الأساسية والتقنية والمهنية، ودعم أولئك الأكثر ضعفاً للوصول إلى التدريب المهني الرسمي وغير الرسمي على حد سواء.
إلى ذلك، تعمل "اليونيسف" في نهج شامل لضمان مشاركة الطفل والأسرة والمجتمع مع السلطات المحلية-الوطنية في أعمال الوقاية وزيادة الوعي حول عمالة الأطفال ومخاطرها. ويشمل ذلك تحويل الأعراف والسلوكيات نحو تعزيز حقوق الطفل وحماية الأطفال من أي شكل من أشكال العنف والاستغلال والإيذاء. أمّا بالنسبة للأطفال المنخرطين في العمل، فيهدف البرنامج إلى تزويد الأطفال بالمعرفة والمهارات ودعم صحتهم النفسية (تدخلات الدعم النفسي والاجتماعي الفردي والجماعي) لتمكينهم وإبعادهم عن الأذى. ويُستكمل بالمشاركة القوية مع مقدمي الرعاية وأصحاب العمل والمعنيين (مثل شرطة البلدية والزعماء الدينيين...) لضمان عدم إرسال الأطفال أولاً للعمل وتعزيز الأسر. عموماً، "هناك تركيز قويّ على الوقاية، لأنّ لكل طفل الحق في التعلّم وطفولة آمنة ينمو فيها"، وفق هيغينز.
في عام 2022، تمكنت "اليونيسف" من خلال 11 شريكاً محلياً، من حماية الطفل، عبر تقديم الدعم المباشر لحوالي 21000 طفل منخرط في العمل (بما في ذلك أسوأ أشكال عمل الأطفال). وتهدف البرامج الهادفة إلى حماية الطفل، بحسب هيغينز، إلى إشراك الأطفال وأسرهم في تحديد حلول بديلة لعمالة الأطفال (كلّما أمكن ذلك) مع تمكين الأطفال بمعلومات حول حقوقهم وأجسادهم ومكان طلب المساعدة عند الحاجة. ويُعد التخفيف من المخاطر وتقليل الضرر أمراً ضرورياً لحماية الأطفال من المزيد من الاستغلال بينما يتم تحقيق الحلول الطويلة المدى للقضاء على عمالة الأطفال.
في منتصف عام 2021، أطلقت "اليونيسف" أول منحة للأطفال في لبنان باسم "Haddi" حدّي - بمعنى "بجواري"، لدعم الأسر لتربية الأطفال ووقف الزيادة في استراتيجيات المواجهة السلبية (مثل زواج الأطفال وعمالة الأطفال). وتؤكّد هيغينز، أنّه بموجب هذه المنحة، "وصلنا إلى حوالي 130،000 طفل لبناني وسوري وفلسطيني ضعيف، أُدرجوا ضمن برامج "اليونيسف" ذات الأولوية مثل الأطفال المنخرطين في عمالة الأطفال، والمعرّضين لخطر زواج الأطفال، والأطفال غير المتعلمين، وذوي الاحتياجات الخاصة". لكن بسبب نقص التمويل، توقّف البرنامج وتم تحويل الدفعة الأخيرة في شباط 2023.
تصوير حسام شبارو
من جهتها، تورد منسقة برنامج "الحصانة والمرونة" في جمعية "حماية" ناتالي برباري، في حديثها لـ"النهار"، أنّ عامل غياب الأطفال عن المدارس نتيجة إضراب المدارس الرسمية، أدّى إلى دخولهم في سوق العمل، إلى جانب الأزمة الاقتصادية وتدنّي قيمه الرواتب أو فقدان وظيفة أحد الوالدين، ما دفعهم إلى توجيه أولادهم إلى سوق العمل لعجزهم عن تسديد الأقساط المدرسية ومن ضمنها المواصلات، ولتأمين مدخول لإيجار المنزل والنفقات المطلوبة الأخرى.
وتؤكد برباري أنّ "نسبة الأطفال العاملين هذا العام زادت عن العام الماضي وتزداد منذ بداية الأزمة". واستقبلت الجمعية منذ بداية العام حتى الشهر الحالي 665 حالة منخرطة بعمل الأطفال، و"هذا الرقم هو الأعلى بالنسبة للأعوام السابقة ومرجَّح للارتفاع فنحن لا نزال في منتصف العام".
ولانخراط الأطفال في مجال عمل الكبار، تداعيات سلبية على صحتهم النفسية، وفق برباري، فالطفل يفقد مساحة لعبه، ولا يسمع سوى أحاديث الكبار وينخرط بفئات عمرية كبيرة ولا يرى أقرانه، ويتأثر اندماجه الاجتماعي ومستقبله التربوي وعلاقته بوالديه، عدا عن احتمال تعنيفه في مكان العمل، سواء جسدياً أو لفظياً ومعنوياً، وهناك حالات كثيرة من هذا النوع.
وخصصت الجمعية برنامجين لدعم الأطفال العاملين. أوّلهما برنامج "الوقاية والتوعية" الذي يتركّز في مناطق فيها أطفال أكثر هشاشة، وحيث هم عرضة للأخطار، بهدف توعيتهم وأهاليهم على عمل الأطفال وقانونيته وأنواع الأعمال التي يحق لهم القيام بها. أمّا برنامج "الحصانة والمرونة"، فيهدف إلى استقبال حالات من أطفال عاملين تحت عمر 13 عاماً (السن القانونية التي يُسمح بعمل الأطفال فيها)، وتقديم الدعم النفسي والاجتماعي لهم ولعائلاتهم، والتأكّد من سلامة ظروف عملهم، ومحاولة مساعدة أهاليهم لتحويلهم عن دفع أولادهم إلى العمل.
تصوير حسام شبارو