طوني فرنجية
تعدّ أسواق طرابلس الشعبية وجهة سياحيّة مهمّة في المدينة، ولهذا لا بدّ لمن يزور عاصمة الشمال أن يسوح ويتجوّل في أسواقها الأثرية التي وضع مخططها الهندسيّ المماليك، في تصنيف يدلّ على معرفة عميقة بطبيعة المدينة وحاجتها لأن تكون حاضنة لمختلف أنواع التجارة وما يحتاجه السكّان في المدينة وجوارها.
يعدّ سوق العطّارين من أشهر وأقدم أسواق المدينة، التي اشتهرت منذ عقود طويلة من الزمن. فهو يعود إلى نحو 700 سنة مضت، ويزخر بالسّلع والمنتجات المتنوّعة ذات الأسعار المقبولة في أيامنا هذه، وفيه يجد من يقصده التوابل والمخلّلات والمخابز القديمة والخضراوات والفواكه والعطور والبخور والأعشاب ذات الدور العلاجيّ وغيرها.
سوق العطارين نشأ إلى جانب أسواق أخرى هي: الصّاغة، الكندرجيّة، البازركان، سوق حراج، الدباغة، النحّاسين والتربيعة المتخصّصة ببيع الموبيليا وسائر أنواع نجارة الخشب، وخان الخياطين وسوق السمك؛ ولكلٍّ من هذه الأسواق وظيفته ومهنته. وقد بقيت هذه الأسواق قلب المدينة النابض بالحياة ليلاً ونهاراً حتى حرب السنتين. وبعد العام 1975 تغيّرت الحياة فيه، حيث بات يُقفل مع غروب الشّمس.
سُمّي بـ"العطارين" نسبة إلى الجامع العمريّ، حيث كان يتعطّر المصلّون قديماً قبل دخول المسجد لتنتشر الرائحة في الأرجاء. لكن غزو المحالّ الجديدة للسوق أنتج روائح كريهة جراء بيع اللحوم والخضراوات، التي حلّت مكان محال العطارة. لكن بعض العطارين قرّروا الصّمود في السّوق حفاظاً على تاريخه، بالرغم من خروج عشرات العطارين إلى أسواق المدينة.
في السوق حالياً تُباع كلّ أنواع الأعشاب والحبوب والعطور، مثل المليسة، وإكليل الجبل، والزيزفون، والورد، والبابونج، والحنّة، والصّابون، وبزر الخردل، والحجر البركانيّ، إضافة إلى العطور والبخور.
يعتبر هذا السّوق للكثيرين بمثابة عيادة شعبيّة، فمحال العطارة الباقية فيه تبيع مختلف أنواع الأعشاب الطبية، وقد امتهن بعض أصحاب المحال تركيب الأدوية وتحضيرها وفق وصفات طبيّة قديمة اكتسبوها من خبرات أجدادهم لمداواة بعض الأمراض، لا سيّما أنّ محال العطارة كانت تؤمن جميع أنواع الاعشاب حتى النادرة منها وكان هناك من يهتم بجمع هذه الاعشاب من جبال الشمال من الضنية وعكار وهي جبال غنية بالأعشاب الطبية وكان بعض العطارين يعملون على استحلاب واستخراج المواد الطبية المفيدة من هذه الأعشاب.
ويقول أحد رواد السوق: "الى الأمس القريب كانت سيارات الشحن الصغرى تدخل محملة بالأعشاب، أما اليوم وللأسف فترى هذه السيارات تدخل محملة بالخضار والفاكهة والاسماك واللحوم بعد أن تغيّر وجه السوق العطر الى فوضى مستشرية تهدد ما تبقى من مجال عطارة بالاقفال بعدما خرج من السوق الى شوارع وساحات المدينة العديدون منهم حفاظا على مهنة ورثوها أبا عن جد منذ أكثر من مئتي سنة وانتشروا في ساحة النجمة وشارع عزمي وفي ابي سمراء حاملين معهم إرثاً من العطارة ولوحات تتحدث عن الآباء والجدود للدلالة على عراقة مهنتهم."
ويقول احد اصحاب محال العطارة في السوق "يأتي الكثير من الزبائن إلينا لشراء الأعشاب الطبية، فقط يشرحون لنا المرض فنصف لهم الأعشاب اللازمة، أغلب الأمراض تكون البحصة، وثعلبة الرأس، وارتفاع ضغط الدم، والضعف الجنسي. ويردف: "محال العطارة تعتبر للكثيرين الطبيب والمرجع، فدورنا لا يقتصر فقط على بيع العطور والأعشاب، بل نعطي الأدوية المناسبة لكل مرض من خلاصة الأعشاب المفيدة، فإن لم تُفِد في علاج المريض فهي بطبيعة الأحوال لن تضرّه".
يشهد السوق إقبالاً كبيراً من المواطنين الذين يأتون إليه من القرى والمدن الأخرى لشراء الأعشاب والنباتات الطبيعية والحبوب أملاً في العلاج وهرباً من الأسعار المرتفعة للدواء.
تقول السيدة هيفاء: "جئت إلى هنا لشراء عشبة "إكليل الجبل"؛ فهي مفيدة لعلاج ارتفاع ضغط الدم". وتضيف أن "سعر الدواء هذه الأيام مرتفع جداً؛ لذا أحضر إلى العطار للحصول على تركيبة من الأعشاب كبديل عن الدواء".
سوق العطارين وجه من وجوه المدينة وحريّ بالبلدية أن تعيد إليه ألقه مع باقي الأسواق التاريخية في طرابلس منعاً لإلغاء هُويّة العاصمة الثانية، وحفاظاً على آثارها المتعدّدة والمتنوّعة.