طرابلس المدينة المعزولة في الظلام والفقر يسعى أهلها للبقاء على قيد الحياة من دون أحلام جميلة أو تخطيط للمستقبل، حيث يوميات الناس محكومة بالبؤس والأخبار عن الضحايا التي تتساقط في شوارعها يومياً جرّاء الفلتان الأمني الذي يجتاح المدينة.
في هذا السياق، ليس مستغرباً أن تستقرّ محصّلة الأسبوع الفائت على خمس ضحايا نتيجة الرّصاص الطائش والسلاح المتفلّت، لتُقلّد طرابلس اليوم وسام "أكثر المدن فلتاناً".
ولعلّ أبرز حادث ضجّت به مواقع التواصل الاجتماعيّ كان اطلاق النار على الشاب عبداللّه عيسى في منطقة الزهراية، أثناء قيادته سيارةً من نوع "رابيد"، وفق ما يُظهره مقطع الفيديو الذي انتشر عقب الجريمة، فقام أحد النَزِقين من سائقي الدرّاجات النارية بإطلاق رصاصة على رأس عيسى من دون سبب، ممّا أدّى إلى إدخال المصاب إلى "المستشفى الإسلامي" في مدينة طرابلس.
في المستشفى، تنتظر عائلة عبداللّه عيسى بقلوب محترقة عودة ابنها إلى أحضانها، ويروي والد عبداللّه لـ"النهار" ما حدث قائلاً: "كان عبداللّه ضمن ساعات الدوام في عمله، وكانت زحمة السير خانقة، وإذ بشاب يبدأ بضرب زجاج "الرابيد" من الخلف، فترجّل عبداللّه من السيارة، وفوجئ بطلقة رصاص من مسدس الشاب من دون سلام ولا كلام"، وأضاف: "لا يزال عبداللّه يعيش على البنج والأوكسجين، وهو في العناية المشدّدة، وذلك من أجل ماذا؟ لا نعلم ماذا سيكون مصيره شاب مثل الوردة بدّن يقتلوه هيك؟".
من جهتها، تقول الوالدة: "عبداللّه قطعة من قلبي، هو الحنون، الطيّب، والمحبّ. حين قالوا لي إنّها طلقة في الرأس اعتقدت أنّه توفّي على الفور، لكنّه الآن بحالة أفضل، ونأمل أن يتخطّى هذه المرحلة، لكن ما نريده هو أن يلمّوا هودي الزعران. أصبحنا نخاف أن نترك بيوتنا. نعيش في خوف مستمرّ: رصاص طائش، طرقات من دون إضاءة، اليوم كان عبداللّه ضحيّة انحلال الدولة، لكن غداً سيغدر الرصاص بشخص آخر، لم يكن ذنبه إلا أنّه يعيش في مدينة متل الغابة".
(عبداللّه مع إخوته)
خلال وقفتنا في المستشفى اجتمع أصدقاء عبداللّه وشرحوا لـ"النهار" معاناة أهل طرابلس اليوميّة وما يدور في طرقاتها. يقول الشاب عمر خواجه الذي كان برفقة عبداللّه خلال وقوع الحادثة لـ"النهار": "أطفال في الشوارع بحوزتهم أسلحة، طرقات مظلمة، مخدّرات في الأزقة، أصبحنا نخاف على حياتنا في أحيائنا. لم يعد الوضع يُحتمل. يجب على الدولة أن تضع الحواجز داخل طرابلس وليس عند المداخل بغية ضبط السلاح المتفلّت والمخدرات التي أنهكتنا، والتي جعلت حياتنا رهينة للزعران".
وفي ما يخصّ الفاعل علي الديك، كان والد عبد اللّه أكّد لـ"النهار" أنّه ليس من طرابلس، ولا أحد يعلم مَن هو. وكانت شعبة المعلومات تمكّنت من القبض عليه، فاستنكرت عائلته الفعل المشين الذي نفّذه الدّيك، وأصدرت بياناً أعلنت فيه تسليم مطلق النار إلى شعبة المعلومات في الشمال، ودعوتها لأهل المصاب عبد الله إلى الصبر على مصابهم الأليم، واضعةً الإشكال في إطاره الفرديّ.
حادثة عبدالله تطرح علامات استغراب بشأن كيفيّة تنفيذها والقصد منها، وسط معلومات تردّدت عن أنّه كان مخططاً أن تحصل مع أيّ كان، ممّا يعني أن عبدالله كان الضحيّة، ولم يكن هدفاً بحدّ ذاته. لذلك، ونتيجة الأحداث المتكرّرة في المدينة، ينتشر الخوف ممّا يُحضّر للمدينة، ومن أن تكون الجريمة محطّة تفجير لفوضى عارمة على مستوى الشمال وكلّ لبنان.
في هذا الإطار، استبعد نائب طرابلس إلياس خوري في حديث لـ "النهار" أن تكون حادثة عبداللّه مخطّطاً لها سابقاً، معتبراً أنها وليدة تفلّت أمنيّ في البلاد، "فطرابلس ككلّ المدن في لبنان، لديها الجيش اللبناني، والقوى الأمنية موجودة في شوارعها، لكن ما يميّزها بشكل سلبيّ هو نسبة الحوادث المرتفعة فيها، فضلاً عن وضعها الاجتماعي والاقتصادي السيّئ الذي بدأ يتحوّل إلى فلتان أمني".
وشدّد نائب تكتل "الجمهوريّة القويّة" على وجود محاولات لتشويه صورة وسمعة المدينة، ولفت إلى أنّ الأجهزة الأمنية لم تتمكّن من ضبط مجموعة إرهابيّة واحدة تسعى لزعزعة الأمن، بل تتمحور عمليّاتهم حول أعمال فرديّة؛ وبالتالي إذا لم تُتخذ إجراءات جديّة وصارمة من قبل الدولة اللبنانيّة، فذلك سيؤدّي إلى فوضى أكثر، وهذا ليس فقط على صعيد طرابلس، بل ستتكاثر المشكلات في كلّ المناطق.
من جهته، اعتبر النائب المبطلة نيابته رامي فنج في حديث مع "النهار" أنّ "علامات استفهام تطرح دائماً حول هذه الحوادث التي غالباً ما تحدث في موقع جغرافيّ معيّن، فضلاً عن المنحى الطائفيّ الذي تتخذه، ممّا يوحي وكأن هذه الحوادث لن تبقى ضمن الإطار الأمني فقط"، لافتاً إلى أنّ "السلاح المتفلّت أصبح عشوائياً، والسؤال الذي يطرح نفسه هو كيف للمواطن الطرابلسي، الذي لا يمكنه تأمين لقمة العيش، أن يحمل السلاح، ومعلوم أن سعره بالدولار؛ وإذا كانت جميع الحدود مضبوطة، فمن أين يأتي السلاح؟".
وأضاف فنج: "المسؤوليّة عن التفلّت تقع أوّلاً على القوى الأمنيّة، الأمر الذي طرحناه عدّة مرات، وأنا متأكّد من أنّها قادرة على ضبط الوضع بشكل صارم جداً، فقد بات معروفاً مَن يملك السلاح ويزوّد الناس به؛ فحين يكون لدينا قرار سياسيّ أمنيّ موحّد يمكن أن يتغيّر الوضع، لكن إذا بقيت الأمور على حالها فستبقى الحال كارثيّة".