ثلاثة ملايين ليرة كانت كفيلة بإنهاء حياة أحد الأشخاص، بعد عجزه عند تأمين دوائه الشهريّ، في إحدى قرى الجنوب، فكيف الحال بتأمين أساسيّات مائدة الإفطار في شهر رمضان، مع تضخّم أسعار السلع الغذائيّة واللحوم؟
يُقبِل شهر الصوم هذا العام وثمّة عائلات تكافح من أجل ربطة الخبز اليوميّة. لم يرأف الانهيار المتسارع بأحوال المواطنين المتدهورة أصلاً، وصار التفكير بتكلفة الإفطار عبئاً إضافيّاً يُقلق شريحة كبيرة من المجتمع. لكنّ الأيادي البيضاء لم تنقطع، فمدّت العون، من خارج حدود الوطن، إلى الأهل في لبنان، للتأكيد على أنّ مفاهيم التكافل الاجتماعيّ لا تزال راسخة في أذهان الناس برغم الأزمة.
ثمّة من يعتقد أنّ انهيار الليرة وتفاقم الأوضاع الاقتصاديّة سيُحدّان من المبادرات الإنسانية في الشهر المبارك، إلّا أنّ الواقع كان مغايراً، وترك صورة إيجابيّة قيّمة ومثالاً يُحتذى به، مع إطلاق عشرات الحملات الفرديّة والجماعيّة في مناطق عديدة، لإعالة العائلات الأكثر حاجة وتأمين وجبات إفطار يوميّة، إضافة إلى مساعدات مالية وعينيّة.
مبادرة "نهج علي"
بدءاً من جيران الحيّ قبل خمس سنوات، وعبر منشور شخصيّ في "فايسبوك"، أُطلِقت مبادرة "نهج عليّ" لتوزيع وجبات إفطار يوميّة، حتّى صارت تغطّي اليوم 300 عائلة مؤلّفة من 1,200 شخص، على نطاق واسع في الضاحية الجنوبيّة. تهدف المبادرة أوّلاً إلى حضّ الناس على تخصيص وجبة من إفطارهم المنزليّ، ومشاركتها مع عائلة أخرى، على أن يتولّى شبّان متطوّعون جمع الوجبات من البيوت وإعادة توزيعها إلى العائلات المسجّلة لديهم.
يلفت مؤسّس المبادرة علي طبيخ، في حديث لـ"النهار"، إلى أنّ "الوجبات المقدّمة من البيوت لا تقتصر على نوع واحد من الطعام، بل تتنوّع بين اللحوم والطبخات الشعبيّة وغيرها، وتضمّ أحياناً حصّة حلوى، إلّا أنّه ينقصها صحن الفتوش أو السلطة، خصوصاً مع غلاء أسعار الخضار في الأشهر الأخيرة".
لا يُخفي طبيخ أنّ ارتفاع سعر الدولار أثّر على عملهم، خصوصاً مع اعتمادهم بشكل كليّ على التبرّعات الماليّة والعينيّة من الناس، ولا يتلقّون دعماً من أيّ جهة حزبيّة، ويقول لـ"النهار": "زادت التكاليف هذا العام بأضعاف عن العام الماضي، واضطررنا لحساب كلفة كيس النايلون أو العلب البلاستيكية التي نضع فيها الوجبات الساخنة، ونحتاج يوميّاً إلى قرابة الألف دولار لتغطية مساعدات العائلات التي نتكفّل بها، مع إطلاق مطبخ خاصّ بنا لتغطية النقص في عدد الوجبات التي نتلقاها من البيوت المساهِمة في المبادرة"، مضيفاً أنّ "هناك من يقدّم مواد غذائية من الأرز والعدس والزيت، ونقوم بتوزيعها إلى جانب الوجبات".
وبعدما انطلق عمل الحملة بمبادرة فردية سابقاً، طغت عليها اليوم الروح الجماعية، بعد تعزيز الثقة بين المتبرعين الذين يصل عددهم إلى 400 متبرّع، وحوالي 100 متطوّع، يتحمّلون أيضاً كلفة التنقّلات والبنزين مع جنون أسعار المحروقات اليوميّ.
جمعيّة "وتعاونوا"
استكمالاً لعملها الاجتماعيّ على مدار العام، أطلقت جمعية "وتعاونوا" الخيرية مبادرة خاصّة بشهر رمضان، فبدأت بتوزيع حصص تموينية ومواد غذائية من لحوم ودجاج وخضار وألبان وأجبان، على 47 ألف عائلة في جميع المناطق اللبنانية.
تستند الجمعية في عملها على لوائح لعائلات مسجّلة لديها ومصنّفة تحت خطّ الفقر، إضافة إلى كشوفات أجراها الفريق التطوّعي للتأكّد من أوضاع الناس، كما تتعاون مع البلديات والمحافظين والهيئات الاجتماعية بحسب المناطق، والتي تمتلك مسحاً للعائلات المحتاجة لتغطية أكبر شريحة ممكنة.
يشرح مؤسّس الجمعية عفيف شومان لـ"النهار" ماهيّة عملهم بالقول: "تستفيد حوالي 4,800 عائلة من الوجبات الجاهزة للإفطار في كلّ لبنان، وننسّق مع مجموعة في كلّ منطقة لإيصال الوجبات يوميّاً للصائمين، على أن يتمّ توزيع 2.800 حصة في الشمال وعكار حيث العائلات الأكثر حاجة"، مؤكّداً أنّه "لا نفرّق بين طائفة أو مذهب ولا حدود جغرافية أو طائفية لتقديماتنا".
جُلّ العمل الإنسانيّ في هذه الفترة يعتمد على تحويلات المغتربين، إذ يؤكّد شومان أنّ "المتبرّعين صاروا جزءاً أساساً من الجمعية منذ 3 سنوات، فهناك متبرّع متكفّل بـ100 عائلة مثلاً وآخر بـ150 عائلة، ونحن صلة وصل، وهذا عمل مستمرّ لا يقتصر فقط على شهر رمضان، وإلّا لكانت الأزمة أكبر على أهلنا".
المسح الميدانيّ يكشف أنّه لم يعد هناك منطقة محرومة دون أخرى و"الناس تعبت" وصارت الحاجة للمساعدة أكبر مع الوقت، إلّا أنّ اللافت أنّه وبرغم تفاقم الأزمة وارتفاع سعر الدولار يوميّاً، لم تنقطع هذه التبرّعات، لكنّها تراجعت قليلاً، إذ يشير شومان إلى أنّ "من كان يتبرّع بـ100 حصة غذائية، بات يُقدّم اليوم 20 حصة، من دون أن يغفل عن مساعدة عائلته الصغيرة أيضاً. أمّا المقيمين، فثمّة من يساهم بـ50 و100 ألف ليرة أو بكيلو من الأرز والعدس وفق استطاعته".
مبادرات فرديّة
تُظهِر المتابعة اليومية للحالات الاجتماعية في لبنان أنّ هناك من يحتاج حقّاً إلى رغيف الخبز، إذ يتلقّى أحمد بزّي، الناشط في المجال الاجتماعيّ منذ 30 عاماً، اتّصالات عديدة، منذ أسابيع، من عائلات تطلب المساعدة، وقد لمس حقيقة الأمر على الأرض وحجم المعاناة بعد زيارة لعدد من الأُسر.
وبالتنسيق مع عدد من الخيّريين في أوستراليا، يتكفّل بزّي بإعالة 40 عائلة من فقراء وأيتام وسيدات أرامل وأشخاص من ذوي الحاجات الخاصة، فيما يلفت إلى أنّ "هذا العام شهدنا زخماً أكبر في العطاء، إذ وصلت المساهمات إلى أكثر من ألف دولار، وسنتلقّى مبلغاً آخر قبيل عيد الفطر".
ويضيف لـ"النهار": "بدأنا بتوزيع الدفعة الأولى من المساعدات، التي تشمل مبلغاً ماليّاً بحسب أفراد الأسرة، وحصصاً تموينيّة قيمة كلّ منها 25 دولاراً، إلى جانب كمية كبيرة من الدجاج والبطاطا، على أن يتمّ توزيع دفعة ثانية من اللحوم مطلع الأسبوع المقبل".
هذه المبادرة الفردية من الأقارب والأصدقاء في الخارج "بُنيت على ثقة عبر السنوات"، وفق بزّي، مؤكّداً على أنّ "التكافل الاجتماعيّ من أسمى قيم المجتمع، والفرد عادةً ما يبحث عن عمل الخير في شهر رمضان".
من المبادرات التي لاقت تفاعلاً وثقة من الناس أيضاً، حملة "أهل الخير في شهر الخير"، التي أطلقتها الاختصاصيّة في علم النفس الاجتماعيّ نسرين نجم، مع صديقتها مريم مغنية، عبر "فايسبوك"، وساهم مجال عملها في الوصول إلى العائلات المحتاجة.
تُحضّر الحملة لتوزيع حصص تموينيّة في الشهر الفضيل، كما ستُوزِّع ما لا يقل عن 100 ربطة خبز على الأُسر المحتاجة، وحوالي 150 حصة من الخضر والفاكهة والدجاج، إضافة إلى الأطباق الساخنة لفئتين: المسنّين المنسيّين، والأمّ المعيلة لأطفالها.
وككلّ المبادرات الأخرى، تؤكّد نجم لـ"النهار" أنّ "التمويل يعود إلى الخيّرين من المغتربين في الولايات المتحدة، فرنسا، ألمانيا وأفريقيا، بعد خلق دائرة من العلاقات العامة، ولا نقبل مالاً من أيّ جهة حزبية أو منظّمة مدنية"، لافتة إلى أنّ "التضامن بين اللبنانيين أكثر من رائع، فالفقير هنا يساعد أكثر من الغنيّ، وثمّة من يتبرّع بعلبتَيّ معكرونة وكيس من البرغل ومرطبان زيتون من مونة البيت".
جغرافيّاً، تغطّي هذه الحملة مناطق واسعة من بيروت وضواحيها، بدءاً من عائشة بكار والبسطة التحتا والخندق الغميق، وصولاً إلى حي اللجا ومارالياس والطريق الجديدة وغيرها من المناطق، أما في الضاحية فيبدأ العمل من نطاق الغبيري والشياح والكفاءات حي السلم الجناح والأوزاعي".
إلى ذلك، تؤكّد نجم أنّه "لسنا مجموعة منظّمة بل يتبرّع الأصدقاء من تلقاء أنفسهم للمساعدة في توزيع الحصص، ويبادرون للاتّصال بنا، ونلتقي في نقطة وصل لتوزيع المساعدات كلّ بحسب منطقته ومحيطه".
هكذا تحاول المبادرات الفرديّة والجماعيّة سدّ العجز لدى عائلات أثقلت الأزمة كاهلها، مؤدّية بذلك "رسالة إنسانية وخيرية"، لئلّا تظلّ أيّ عائلة في لبنان عاجزة عن تأمين إفطارها في شهر الخير.