النهار

"مايو" صيدا وحرياتنا... الدفاع عن أنفسنا رغم واقعية اليأس
ديما عبد الكريم
المصدر: "النهار"
"مايو" صيدا وحرياتنا...  الدفاع عن أنفسنا رغم واقعية اليأس
نساء على الشاطئ. ( تعبيرية- "أ.ف.ب")
A+   A-
لم يكن مفاجئاً ما حصل في صيدا يوم أمس، على الأقلّ، على الصعيد الشخصيّ، أو لمن لم يعد قادراً على مواساة نفسه بنشر صورة من الأرشيف لنساء يرتدين لباس البحر، على البحر! أو لمجموعة أخرى تحتسي المشروبات الروحيّة على الشاطئ، أو مقطع فيديو لمهرجان تصدح فيه أغاني فيروز وصباح ونصري شمس الدين وغيرهم، للتعبير بأنّ هذا لبنان الذي نريده، أو للإشارة إلى أنّ لبنان الستينات والسبعينات والثمانينات و... و... كان بلد الانفتاح والتعايش والحريّة والعيش المشترك وغيرها من المصطلحات التي بات علينا الاعتراف بأنّها صارت منفصلة تماماً عن الواقع الذي نعيشه اليوم. رغم هذه الواقعيّة "القاتمة"، سيبقى السؤال عن القانون الذي يفترض أن يحمي الناس من انتهاك حريّاتها، وخطف تنوّعها، وممارساتها خياراتها الفرديّة تحت سقف الدستور الذي يحميها. 
 
غاب إذاً عنصر المفاجأة بالنسبة إلى متابعين لعدم وضع حدّ لأصحاب اللون الواحد والأحاديّين، وبقي أنّ ما حصل على شاطئ صيدا كان فيه من الغصّة ما يكفي لتصوير ما وصلت إليه الأوضاع في لبنان من عبث، بحجّة الدين والطوائف والأعراف وحماية الهويّات، وطبعاً فلكلور "درء الفتنة"، متجاهلين عن قصد ما يسيء فعليّاً إلى الإنسان في هذا البلد.
 
هي عطلة نهاية الأسبوع، التي يخطّط فيها الناس، كلٌّ بحسب أهوائه، للترفيه عن أنفسهم والاستمتاع في ما تبقّى لهم من مساحة. ولكن هذا الأحد اختارت بعض المجموعات أن تقف حائط صدّ في وجه هذه المساحة لا لشيء، بل لمجرّد أنّ لباس ما لم يتناسب مع توجّهاتهم ومخيّلاتهم الطامحة في فرض صورة واحدة لهذه المنطقة.
 
أنّ تتحضّر مجموعات قبل أيّام للثأر ممّن قصدن البحر بـ"المايو"، وتقابلها مجموعة أخرى للدفاع فقط عن حريّة اختيار اللباس، أن تحصل صدامات بين مؤيّد ومعارض لهذا اللباس، وتتدخّل القوى الأمنيّة، أن نرمي بعضنا بعضاً باتّهامات أخلاقيّة ونفرز الناس بين داخل للجنّة وآخر للنّار، يحتّم علينا البحث عن أجوبة لأسئلة عدّة: ماذا يعني أن يخرج رجل دين في العلن ويتوجّه إلى عامّة الناس بالقول إنّ هذه المدينة ليست لكم؟ ماذا يعني أن يصدح شعار "الله أكبر" في وجه روّاد الشاطئ، وخاصّة النساء منهنّ؟ ماذا تعني شعارات عدم السماح باختطاف مدينة ما؟ ماذا تعني تلك الادّعاءات بالاستقواء بناس من خارج المدينة؟ من هم هؤلاء الناس؟ ماذا يعني إسكات الناشطات واعتبارهنّ عورات وتلوّث؟ ماذا يعني توجّه رئيس بلديّة بالشكر للأجهزة الأمنيّة لنجاحها في احتواء ما حصل، والفصل بين أصحاب وجهات النظر المتباينة؟ هل هذا لبنان الذي نريد؟ أم هو لبنان الذي يريده البعض أن يكون؟
 
قامت بلدية صيدا بما يتوجّب عليها! رفعت لافتة كبيرة عند مدخل شاطئ مسبح صيدا الشعبيّ، ذكّرت فيها روّاد الشاطئ بمجموعة من الشروط والإرشادات، من بينها التقيّد باللباس المحتشم ومنع إدخال المشروبات الروحيّة. وحملت اللافتة توقيع بلديّة صيدا ووزارة الأشغال العامّة والنقل. ودعت روّاد المسبح إلى التقيّد بهذه الضوابط المتّبعة سنويّاً في المسبح الشعبيّ، مشيرة إلى أنّها ستسهر على تطبيقها. كذلك فعل رئيس البلديّة بما يتوجّب عليه أيضاً! منع حصول أيّ نشاط أو تحرّك إلّا بعد الحصول على ترخيص وإذن رسميّ مسبق. وانتهى البيان.
 
لبنان جمهوريّة وليس ولايات
 
"دول العالم تعاني من مشاكل وتبتكر لها الحلول، أمّا نحن في لبنان فلدينا الحلول ونبتكر لها المشاكل". هكذا اختار رئيس المجلس السابق لكتّاب العدل جوزيف بشارة أن يصف ما حصل أمس على شاطئ صيدا، قائلاً لـ"النهار": "بلدنا جمهوريّة، بالقانون والدستور، وتعريف الجمهوريّة هو الحيّز العامّ الذي يتيح للمواطنين الحقوق والموجبات التي تساوي في ما بينهم، ويحكمهم الدستور. وهذا القانون ملزم، وله طابع عامّ إلزاميّ وليس اختياريّاً أو خاصّاً بكلّ منطقة".
 
وأضاف: "الدستور في أعلى الهرم، والحريّات يجب أن تكون مصانة في هذه الجمهوريّة، فالفكر الجمهوريّ يشجّع الحيّز العامّ أي كلّ ما هو مشترك، من مواطنة وتفاعل وقيم مشتركة والإرادة العامّة للمواطنين، وهذه خلفيّة قانونيّة متينة، ولو أنّها تظهر في بعض الأحيان على أنّها نظريّة فقط".
 
يشدّد بشارة على أنّ "الحل في أن نتذكّر أنّنا جمهوريّة ولسنا ولايات، ولكلّ ولاية سلطة تعبّر عن هويّاتها الخاصّة، وللسلطات المحليّة دور تنظيميّ فقط، شرط عدم المسّ بالحريّات والحقوق الأساسيّة. وأمام ما حصل بالأمس في صيدا، شاطئ البحر ليس دار عبادة، فاللباس البحريّ معروف على كلّ الشواطئ في جميع المناطق اللبنانيّة، وهذا أمر طبيعيّ ويندرج ضمن إطار الحقوق والحريّات، ولا أحد يتذرّع بجهل القانون والدستور".

نقاشات لا تمتّ للقانون بصلة
 
يؤكّد بشارة أن "لا التباس في الأوساط الحقوقيّة والقانونيّة فالنصوص واضحة، والنقاشات التي تحصل لا تمتّ للقانون بصلة. بل ما يحصل خلفيّات يُمرّر من خلالها نظريّات سياسيّة معيّنة".
 
القانون حبر على ورق
 
يجيب بشارة عن فعاليّة القانون، واستسلامه للنفوذ وأصحاب السلطة، بالقول: "نعم جوّ الإحباط موجود، وهذا مردّه لسلسلة من التراكمات وموازين القوى التي فرضت منطق القوّة على حساب الحقّ، ولكن هذا لا يمنع من التذكير بأنّ العناصر موجودة للدفاع عن الحقّ في وجه القوّة حتّى لو أنّ النضالات لم تأتِ دائماً بنتائج مبهرة، ولكنّ الجهد والحركة مستمرّان، وهذا مسار طويل بعيداً عن التشفّي وخطابات الكراهية، ولا أحد يصوّر أنّ النصوص القانونيّة والدستوريّة على أنّها غير موجودة، ولكن علينا تفعيلها".
 
وفي رأيه، أنّ "وجود الفكر المحافظ والمتشدّد لا يعني انقسام المجتمع وفرزنا عموديّاً، فما حصل لا يشبه الشعب اللبنانيّ ككلّ".
 
قد يتكرّر مشهد صيدا، على شاطئها أو على شواطئ أخرى، فالموضوع اقتصر في ظاهره على اللباس البحريّ، أمّا في طيّاته فهو يحمل الكثير من فرض الخيارات والأفكار وأساليب الحياة، وكذلك فرض السلطة وسلب الحقوق. ولا يخفى على أحد أنّ ما ظهر إلى العلن في الأمس لم يكن مجرّد تباين في وجهات النظر حول اللباس البحريّ، بل محاولة "تنفيذ كلام" وصبغ سكان مدينة بلون واحد يخطف منها تنوّعها.
 
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium