كانت السّاعة تُشير إلى الخامسة والنصف من بعد ظهر الظهر حين رنّ هاتفي. عادة لا أُجيب على الأرقام التي لا أعرفها، لا سيّما عندما أكون عائدة منهكةً من العمل. لكنّ إصرار المتّصل أجبرني على تغيير عادتي... وحسناً فعلت!
بصوت خافت وخائف سألتني عن اسمي وصفتي الصحافيّة. للوهلة الأولى، ظننتها تُريد مساعدة معيّنة فحاولت التهرّب، غير أنّها سارعت إلى القول: "قرأت لكِ مقالاً عن تجربة سيّدة معنّفة، وأودّ مشاركتك قصّتي أيضاً. أشعر اليوم أنّني مستعدّة لسردها بعدما تحرّرت...".
انسابت حكايتها مع دموعها، وهي تروي كيف كانت تحلم بأن تستكمل دراستها، وكيف كانت عائلتها متشدّدة وغير ميسورة الحال، فأعطوها لأوّل عريس تقدّم لطلب يدها من دون أخذ رأيها حتّى، "فالحبّ يأتي بعد الزواج"، و"سترة المرأة بيت زوجها"، وما عدا ذلك "حرام ولا يجوز شرعاً".
"تزوّجت في الثلاثين من عمري. استمعت إلى كلام عائلتي، ورضخت لقرارهم بسبب فقرنا وعجز والدي عن إطعامي وإخوتي. فالمعيشة في لبنان صعبة حتّى ما قبل الأزمة الحالية، و"الشاطر" هو الذي يعرف كيف يُدبّر نفسه. ونحن "على قدّنا"، نعيش كلّ يوم بيومه، وننتظر قدرنا بصمت، لأنّه حتّى لو تكلّمنا فلن يسمعنا أحد. أمّا هو فكان يكبرني بـ15 عاماً، وكأنّ قلبه اتّخذ من قساوة الدنيا ملاذاً له، فلم يُعاملني بالحسنة منذ الدقيقة الأولى التي أُقفل فيها الباب علينا"، تقول جنى.
في البداية، تكون العلاقات مختلفة ورائعة، إلّا أنها تتبدّل مع الوقت لتكشف ما يعجز القلب عن تصديقه. "أحببته عندما رأيته لم أكن أتوقع أن أتقبله بتلك السرعة، حتّى أنّه خلال السنوات الأولى من خطوبتنا كانوا يشبهونا بطيور الحبّ، اعتقدت أنّه عوضي عن مآسي هذه الدنيا، وعشقنا بعضنا لدرجة حسدنا الناس عليها فكنت أتعمد اختلاق الأخبار الكاذبة عن خلافاتنا كي لا نصاب بالحسد، ولكن بعد ليلة الزفاف مباشرة تغيّر كلّ شيء وكأن أحدهم استبدل زوجي بكائن آخر"، تشرح جنى.
شرعاً وإنسانياً لا يجوز إجبار المرأة على معاشرة زوجها من دون رضاها، أو يُصبح الأمر اغتصاباً وتعدّياً عليها، فهذه ليست وجهة نظر أو حجّة دفاعيّة، بل حقيقة يصمّ البعض آذانهم عنها؛ وهذا أبشع ما يُمكن أن تشعر به أيّ سيّدة على الإطلاق... وكأنّها "ماكينة" إنجاب أو "وسيلة" لإثبات رجولة المغتصب.
استفاضت جنى بحديثها، مستذكرةً ليلة زفافها، أو كما سمّتها "ليلة جحيمها"... "جلستُ على حافة السرير أحدّق بالغرفة الواسعة ذات النافذة المطلّة على أشجار السنديان والأرز، أدقّق بتفاصيلها التي أراها للمرة الأولى. لم أكن أعلم ماذا يجب عليّ فعله بعد تصرّفاته الغريبة التي تبدلت، هل أخلع فستاني أم أنام به؟ أين سأنام والسرير لا يتّسع لنا نحن الاثنين من ضِيقه. في زحمة تخيّلاتي وتساؤلاتي، دخل زوجي إلى الغرفة وأقفل الباب، ثمّ أتى ووقف أمامي قائلاً: "الكلمة لي هنا، منذ هذه اللحظة أنت ملكي، وطاعتي واجب عليك". بعدها، نزع فستاني وحدث ما حدث".
عارضته كثيراً، وحاولت التهرّب منه بحجج مختلفة، وفي كلّ مرة كان يردّ عليها بالشّتم والضّرب عوضاً عن الكلام أو لغة الحوار التي لم يُصادقها يوماً. أربع سنوات من الزواج والعذاب والقهر والبكاء عانتها جنى، فدفعت الثمن غالياً، وأصبحت "عبدة" له يغتصبها ويضربها ويعتدي عليها وفق ما يشاء، ولم يتدخّل أحدٌ لإنقاذها، لأنّه "لا يجوز التدخّل بين الرجل وامرأته تحت أيّ ذريعة".
"كان يضربني بشكل يوميّ تقريباً، وكأنّه يستمتع برؤية دمائي التي تسيل مع دموعي أمامه، علماً أنّه لم يكن يشرب الخمر أو يتعاطى المخدِّرات بتاتاً، كما لم يكن يُعاني من أيّ مرض نفسيّ، أيّ لا تفسير لتصرّفاته الباردة والقاسية تجاهي. كنت له بمثابة عدوّة لا زوجة، ويشهد الله عليّ أنّني حاولت التقرّب منه مرّات عدّة ليس حباً به، بل محاولة لاستعطافه، عساه يتوقّف عن ضربي ومجامعتي عنوة".
تُخبرني عبر الهاتف بحرقة عن معاناتها الزوجيّة بتفاصيلها الدقيقة التي عجزت عن نقلها حرفيّاً، أو ربما لأن عقلي لم يتقبّلها فتعاطفت معها. كيف يُمكن للمرء تحمّل هذا الوجع كلّه بصمت؟ كيف يُمكن لجنى تقبّل فكرة تخلّي عائلتها عنها، وتعنيف زوجها، وحبسها في بيت جبليّ وسط الغابة في منطقة شماليّة وعرة، وهي عاجزة عن الهروب حتّى؟
أسئلة كثيرة راودتني، وما من جواب عليها إلّا في باقي الحكاية وبلسان بطلتها... "كان يُريد طفلاً، ولكن الله شاء ألّا يُطعمنا إيّاه ربّما رأفة به. لكن زوجي لم يقتنع، فكان يوبّخني ويهدّدني بأن يتزوج مرّة أخرى.
زرنا العديد من الأطباء، الذين أجمعوا على أنّنا لا نعاني من أيّ مشكلة جنسيّة أو صحيّة تمنعنا عن الإنجاب، ولكن ثمة مشكلات نسائية تُثير القلق ناتجة عن اغتصابي بعنف بصورة متكرّرة. طبعاً لم أقل ذلك للطبيب، فجسدي لا يحتمل أيّ ضربة أخرى منه، والصمت كان جوابي الوحيد في تلك اللحظة... مرّت السنوات وأنا أحاول التأقلم، إذ ليس لديّ من خيار، ولا شهادة جامعيّة ولا مهنة ولا مأوى. وكأنّ العالم اتّحد لبقائي في ذاك البيت. وما زاد الأمر سوءاً كان فيروس كورونا الذي أجلس زوجي في البيت أمامي طوال فترة الحجر الصحيّ، حيث كنت أتهرّب منه بتنظيف المنزل أو الطهو، في محاولات لم تنجح دائماً، ولكنها على الأقل أبعدتني عنه. وذات مرّة لاحظت أن دورتي الشهرية تأخّرت، فشككت بأنني حامل، وطلبت من شقيقتي أن تحضر لي الاختبار لأُجريه في المنزل، لأنّه كان يمنعني من الخروج إلى الطريق أو الشرفة بحجة الغيرة. وحصل ما كنت أخشاه، وأتت النتيجة إيجابية. لم أفهم مشاعري حينها، فكانت مزيجاً من الفرح لأنني سأصبح أمّاً، ومن الحزن لأن زوجي ليس الأب الذي أتمنّاه لطفلي المنتظر، والأهمّ هو أنّني أُجبرت على هذا الحمل كما كنت سأُجبر على الإنجاب لو لم يركلني بقوّة وأنا في الشهر الأول، لأجد نفسي غارقة في دمائي، وأكتشف أنّني أجهضت الطفل الذي كنت أريده سنداً لي في هذه الدنيا".
خسارة فادحة أيقظت جنى من غيبوبة زواجها، وأعادتها إلى الحياة بعدما تركت منزل زوجها، وتحدّت عائلتها التي قاطعتها لأنّها "لطّخت شرفهم وشرفه بالعار لمجرّد خروجها من بيتها". بلحظة واحدة تبدّلت حياتها، وهدأت عاصفة أفكارها... "لحظة شجاعة واحدة كانت كفيلة بإنقاذ مئات المعنّفات".
في الواقع، إن مشاهدة بعض رجال الدين على الفضائيّات واتّباع نصائحهم لتفادي هدم المنزل الزوجيّ تساهم أحياناً في رفع معدّل العنف المنزليّ، ثمّ يأتي هاجس الخوف من خسارة الزوج أو كلام الناس في الدرجة الثانية مباشرة، حيث التحسّر حينها على الكرامة المهدورة أو الحبّ الضائع والرضا بالنصيب لا ينفع... فما بين امتصاص غضب الزوج وطاعته والرضوخ لعبوديته وشهواته المرضيّة خيط رفيع، وبأيديكن قطعه والتحرّر.
*قصة من سلسلة أتاحت منبراً لأصوات النساء المعنّفات بهدف تشجيع البوح، وتسليط الضوء المستمر على الظاهرة المنتشرة في لبنان والعالم العربي.