محمد بزي
عندما تنظر إليها يمكنك قراءة قصّة مختلفة، قصّة تحمل في طياتها سنواتٍ من الكفاح، الخذلان والأمل... إنّها قصة فاتن وطفلها البكر محمود.
خاضت فاتن رحلة وعرة وشاقة مع طفلها منذ سنوات طويل، بعدما أخبرها الطبيب أنَّ محمود يعاني من "التوحّد".
لا يمكن اختصار رحلة فاتن وابنها بعدد من الكلمات نظراً لطولها وصعوبة مراحلها. البداية كانت في عمر السنتين، عندما لاحظت الوالدة تراجع مهارات طفلها من ناحية الكلام والتواصل وغيرها... ما دفعها إلى استشارة طبيب.
"طيف التوحّد".. عائق اجتماعيّ أو صحيّ؟
لا شكّ في أنّ طيف التوحّد هو اضطراب عصبيّ، يؤثّر في عملية نموّ الفرد، ويحدث في مرحلة مبكرة من الطفولة، ويستمرّ طوال فترة الحياة.
كما يؤثّر في تصرّفات الشخص وتفاعله مع الآخرين، وقد يصل إلى مراحل أكثر تعقيداً كتأثيره على تواصل الفرد أو حتى استكمال تعلّمه. لا يزال سبب المرض غير معروف حتى اليوم، لكنّ البحوث ترجّح أن تكون العوامل البيئية والجينية سبباً أساسيّاً في ذلك.
"التوحّد اللبنانيّ" أرقام لا تبشّر بالخير!
تُحدثنا الآنسة غادة مخول رئيسة "جمعية الأهل لدعم التوحّد" عن صعوبة الأوضاع التي تعانيها مراكز الدمج والجمعيات التي تُعنى بأمراض التوحّد. إذ تفاقمت معاناة المراكز المتخصّصة بهذه الحالات بسبب انعكاس أزمات البلد عليها، وهو حال لا يختلف عن سائر الجمعيات والمؤسسات التي تحاول يوماً بعد يوم الصمود في وجه ما تعانيه.
تقول مخول إنه وبحسب آخر دراسة أجراها مركز الأمراض والوقاية "cdc"، تُظهر الأرقام أنَّ بين كل 44 طفلاً هناك حالة إصابة بالتوحد. ومقارنةً بدراسة أجرتها الجهة نفسها عام 2000 أظهرت النتائج آنذاك أنَّ هناك حالة إصابة بالتوحد بين كلّ 155 طفلًا. وهو ما يؤكّد ازدياد أعداد الإصابات في السنوات الأخيرة.
ولفتت غادة إلى أنَّ هناك ارتفاعاً في الطلب على مراكز الدمج والعناية بالمصابين بالتوحّد وذلك لعدم قدرة الأهالي على اللجوء إلى مراكز خاصة نظراً لارتفاع تكاليف المعاينات والمتابعة.
وتوجهت مخول بنصيحة إلى الأهالي الذين لديهم أطفال مصابون بالتوحّد بعدم التأخّر في متابعة حالات أطفالهم، واللجوء إلى المختصّين في سنّ مبكر في حال ملاحظة أيّ اضطراب لدى أطفالهم. وحثّت الأهل على تقبّل أطفالهم واحتضانهم.
فاتن.. قصّة نضال
تَعتبر فاتن أنَّ ما حدث معها بمثابة "هدية من الله" وامتحان لها. فبعد خبرة سنوات واكبت خلالها محمود وكرّست حياتها للتعلم واكتساب معلومات لفهم ما يعيشه ابنها والحالات المشابهة، باتت فاتن ناشطة حقوقية تعمل على تفعيل دور الأشخاص من ذوي الإعاقة، بالإضافة إلى اكتسابها إجازة في اختصاص التربية المختصّة.
لمست بعد التجارب والتعلّم أنّ عزلة الطفل لم تكن تعني أنه لا يشعر بمن حوله وخاصّةً والدته المناضلة في سبيله، بل على العكس كان يرى ويشعر بكلّ شيء ضمن عالمه الخاص. لذلك لم يكن من السهل تقبّل ما حدث، فعاشت حالة من النكران والاكتئاب لسنوات طويلة، إلى حين قرّرت البدء في النضال كم تقول، والتوقّف عن الخضوع لدور الضحية الذي يعكس ضعفاً متزايداً على ذاتية الإنسان وحياته.
فانكبّت فاتن على تعزيز ثقافتها، مستعينةً بجلسات العلاج النفسي لدى طبيب مختصّ، إلى جانب مشاركتها في عدد من المحاضرات وورش العمل التوعوية.
كلّ ذلك لم يكن كافياً، على حدّ قولها، بل عملت أيضاً على تطوير الجانب الاجتماعي من شخصيتها كي تقوى على حماية طفلها من نظرات الشفقة التي ينظر بها المجتمع إليه.
تعتبر فاتن أنَّ الخطوة الأولى لبداية العلاج الصحيح يجب أن تكون من خلال فهم الأهل لحالة التوحّد وتقبّل الواقع، لإعطاء طفلهم ثقة أكبر والاهتمام والحماية المطلوبة. ولفتت إلى أنَّ مرحلة الوصول لتقبّل ما حدث مع طفلها قد استغرق سنوات كانت مليئة بالاكتئاب والنكران.
أنشأت فاتن صفحة خاصّة بها على منصّة "فايسبوك" باسم Proud of my soon with Awesomen (فخورة بابني المذهل)، وحوّلت معاناتها وتجربتها الشخصية مع هذا المرض إلى منبر لتوعية الأهالي في العالم العربي على كيفية التعامل مع أطفالهم المصابين بالتوحّد، لتنتقل بعدها لمختلف منصات التواصل الاجتماعي. وكان للصفحات هدف توعوي بالدرجة الأولى ورسالة أمل للأهل الذين يعانون بصمت ولا يعرفون كيفية التصرّف في مثل هذه الحالة، بالدرجة الثانية. ومذاك، ومع الوقت، حصلت تغييرات في حياة تلك المرأة وابنها، إذ حظيا بشهرة كبيرة في الوسط العربي وأصبحا مصدر إلهام للكثير من الأمهات والأهالي.
أوصلت فاتن رسالة إنسانية ملهمة للكثير من الأشخاص، إلاّ أنّ هذا الدور بقدر أهميته على المستوى الفردي والتجربة الشخصية، هو مهم أيضاً على مستوى أن تعي الدولة اللبنانية واجباتها تجاه المصابين بالتوحّد وسائر الأفراد الذين يعانون من إعاقات جسدية.