النهار

أمّي المتسوّلة
تعبيرية.
A+   A-
سعاد الهرباوي         


(خُطف شقيقها أحمد الهرباوي على حاجز في منطقة الأشرفية، في شهر آذار سنة 1975)

بينما كنا ننتظر الباص العتيق كي يقلّنا الى بيوتنا، سمعتُ أمي، السيدة المسنّة، الجالسة على الرصيف بعد نهار طويل أنهكها، تطلق ضحكة عالية وصلت الى كل من حولها.

التفتّ نحوها مستغربة سبب ضحكتها، وإذ بها مادة يدها اليمنى وفي كفّها قطع نقدية.
 
علا ضحكي، وكذلك ضحك من سمعها تروي بأسلوبها الخاص وبرقّتها، ما حصل معها للتو. وجدت نفسي في موقف محرج، بين الضحك على ما يجري معها وبين رصانة وهيبة حضور المناسبة. فقد تقدّم رجل ووضع قطعة نقود في يدها. سرعان ما استدركت قصده، فقالت له: "يا بنيّ، أنا هنا من أجل ولدي، قطعة منّي انسلخت، وأسعى الى معرفة حقيقة ما حدث له. أنا لست هنا لأتسوّل".

كثيرون يمرّون في الساحة العامة حيث تتجمع النسوة، ولا يشغّلون عقولهم لفهم سبب وجودهن في المكان. نساء مسنّات، وصبايا يقفن معهنّ، يساندنهن ويرعينهن. صبايا ربما هن أخوات أو بنات ينتظرن جميعاً أمراً ما، ويعشن على أمل عساه يتحقّق...

لم تكن تدرك أمي أن القدر يتلاعب بتفاصيل أيامنا، ويلعب لعبته القذرة معنا. ففي الوقت الذي أرادت العائلة أن تهرب من منطقة تحوّل فيها التعايش الى فرز طائفي وقتل على الهوية، الى منطقة أكثر أماناً، مرّ بنا أحد الأشخاص التابع لإحدى ميليشيات الحرب، وكان جارنا في ذلك المبنى الجميل الذي كنا نقطنه بأمان قبل اندلاع الحرب اللعينة. ألقى التحية على أمي وأخي، وأكمل طريقه ليتحدث مع ثلاثة أشخاص موجودين في المكان، ثم اختفى.

بعد ذلك، أتوا وأخذوا أخي عنوة من أحضان أمي، التي لم تدرك حجم فجيعتها ولم تستوعب عمق الصدمة في اللحظات الأولى. ما حدث أفقدها حواسها، وهي المدركة أنه لن يعود. بدأت بالصراخ والبكاء وهي تترجّاهم أن يعيدوه إليها لكن لا جدوى من ذلك.

منذ تلك اللحظة لم تعرف أمي عن ولدها أي شيء.

منذ تلك اللحظة بدأت معاناتها الكبرى.

بدأت مرحلة عذاب تلك المرأة الصابرة، الجميلة، المضحية بكل أحلامها وآمالها، لتربّي أطفالها تربية حسنةً. هي الأم النعمة الكبرى في حياتنا... ويا لها من أم.

كانت أمي صديقة وأختاً ورفيقة درب بالنسبة إليّ. وُلدتُ بعد خمسة من الإخوة الذكور، وكنتُ أنا الطفلة المدلّلة لدى الجميع، بل لعبتهم...

لم يكن أحمد قد تجاوز السبعة عشر ربيعاً حين فقدناه. كان طويل القامة، ذا عينين عسليتين، طيّب القلب، حنوناً. كان يحب فتاة جميلة كأزهار الربيع اسمها غادة...

لكن القدر فرّق بينهما فجأة، إذ أصيبت غادة برصاصة طائشة على مرأى من المتحاربين، ولم يستطع أحمد إنقاذها؛ فتلك الرصاصة الغادرة اخترقت قلبها الصغير، لتودّع هذه الحياة بين يدي أخي.

كانت تلك هي الصدمة الأولى لعائلتنا، إذ عانى أحمد كثيراً لفقدها. كانت حلمه الذي لم يكتمل...

بعد أن هدأ رصاص التقاتل العبثي، كان لا بد لنا أن نفتش عن فقدنا الغالي، فبدأت رحلة البحث، التي تبدو عبثية أيضاً، للأسف...

لم تكفّ أمي عن البحث. لم تكل أو تتعب أو تملّ. كانت تواظب على اللقاءات وكل ما له علاقة بقضية المفقودين والمخطوفين. في أحد الاعتصامات لأهالي المفقودين، حضر مسؤول كبير في الدولة، صرّح أمام الأمهات والأهالي، وبكلّ بلاهة وانعدام للمسؤولية، بأن أولادهن المفقودين أموات، منهم من رُمي في البحر ومنهم من صُبّ فوقه الإسمنت.

لم تحتمل أمي سماع ذلك، فصرخت بغضب تلقائي: "أولادنا ليسوا أمواتاً بل أحياء!". ثم خلعت حذاءها ورمته في وجهه. لم تحتمل قوله وهو يصرّح بموت من تحب. يومها أصيبت أمي بأول نوبة قلبية نقلت على أثرها الى أحد المستشفيات القريبة. لكن ذلك لم يمنعها عن متابعة المطالبة والبحث عن أخي أحمد.

إلا أن المرض بدأ يفتك بها. في أحد الأيام، بينما كنت جالسة قربها نتحدث عن قضيتنا وعن أخي، وكان مرضها قد اشتد وطرحها في السرير، قالت لي: "لا أوصيك بشيء سوى أن تتابعي ما بدأناه سوياً. أمانة في عنقك أن تكشفي عن مصير أخيك أحمد".

كنت قد منعتها من المشاركة بأي اعتصام، وكعادتي معها، بتّ أنزل وحدي مع باقي الأهالي لنطالب بمعرفة مصير أحبائنا.

قبل وفاتها بأيام معدودة، قالت لي: "أريد أن طلب منك، في حال عودة أحمد، أن تذهبي الى قبري وتطرقي عليه وتخبريني بأنه عاد، لكي يرتاح قلبي ويثلج التراب فوق رأسي".
قلت لها والدمع في عيني: "بعيد الشر عنك، لماذا تقولين هذا؟".

جاوبتني: "أعلم أني سأفارق هذه الحياة، وأنت ستكملين الطريق لمعرفة مصير أخيك".
وكان ذلك الوعد الذي قطعته لها.


الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium