الدكتور فادي جورج قمير
بدأت حياتي العملية في لبنان مع وزراء ثلاثة من رجال الدولة العظماء بتواضعهم ووطنيتهم وثقافتهم الواسعة وباحترامهم للمؤسسات وبعدم المُساومة على لبنان وأيضًا باعتمادهم الشفافية والأخلاقية كنهج ودستور في عملهم ألا وهم : عادل قرطاس وجورج افرام والقاضي سليمان طرابلسي وكان لي كبير الشَّرَف بالعمل معهم.
لكنّ هذه المناسبة هي للكلام عن معرفتي بالصديق الدكتور عادل قرطاس. كبيرٌ من بلادي خلّد اسم لبنان في المحافل وعلى المنابر الدولية والاقليمية والوطنية. كان أحد مدراء منظمة الفاو وقد طبع مروره بمراحل مفصلية كبيرة سواء على الصعيد الوطني مع المرحوم ادوار صوما مدير عام الفاو أم على الصعيدين الاقليمي والدولي.
معرفتي بعادل قرطاس تعود الى بداية العام 1993عندما عدتُ من فرنسا الى لبنان لأتسلَّم مهامي كرئيس مجلس إدارة المصلحة الوطنية لنهر الليطاني ومن ثمّ لاحقًا كمدير عام للموارد المائية والكهربائية، حيث التقينا مرّاتٍ عدّة مع الراحل الكبير ادوار صوما. وقد كان الدكتور عادل قرطاس عرّاب هذه الاجتماعات وكان من كبار معاوني آدوار صوما في الفاو، في عداد الشخصيات العلمية اللامعة التي طبعت بحضورها المحافل الدولية والوطنية. لم يتردّد يومًا في تلبية النداء لخدمة وطنه وأهله. كنّا نتباحث ونتناقش بدراسات شاملة لمشاريع المياه والأمن الغذائي ومشاريع الري وتطويرها في كافة المناطق اللبنانية. وقد تعدّت هذه الدراسات لتطال دراسات السدود والبحيرات الجبلية على مختلف الاراضي اللبنانية.
وقد استشهدنا في عملنا بالدراسات التي قامت بها الفاو، حيث أن الخطة العشرية لوزارة الطاقة والمياه ارتكزت بدايةً على ما قامت به النقطة الرابعة وعلى نتاج كبار أمثال موريس الجميل وابراهيم عبد العال وكذلك على ما قامت به الفاو من دراسات للبنان في عهد ادوار صوما والمشروع الأخضر في عهد مالك بصبوص، بالاضافة الى ما قام به آخرون في ادارات الدولة اللبنانية، فنَفضنا الغبار مع معالي الوزير المرحوم جورج فرام عن أحد المشاريع الواردة في هذه الدراسات التي كانت مَنسيَّة وقابعة في الأدراج، ألا وهو مشروع سد شبروح الذي كان من ضمن الدراسات الزراعية لتطوير الزراعة في لبنان، الى أن أبصر النور ودخل حيز التنفيذ وهو يمدّ منطقة كسروان بمياه الشرب.
كان مجلس الوزراء آنذاك قد اتّخذ قرارًا بتشكيل بعثة لمحاورة البنك الدولي بشأن مشاريع تُعنى بالتطوير الزرعي ضمن المصلحة الوطنية لنهر الليطاني وفي سائر المناطق اللبنانية. لم يُعطِ مجلس الوزراء، حينها الموافقة، بناءً لقرار من الوزير المختصّ، بأن نكون من ضمن هذه البعثة لاعتبارات لست بصدد سردها. وكان وزير الزراعة عادل قرطاس قد عرض أثناء هذه الجلسة بأن نُمثِّل شخصيًا وزارة الزراعة في هذه البعثة، إيمانًا منه بإمكانياتنا، وقد وافقه الرئيسان الهراوي والحريري على الفور. وقد شُكِّـلَت البعثة وذهبنا الى البنك الدولي في واشنطن. كان اللقاء مع البنك الدولي مثمرًا وشكَّل محورًا مفصليًا بالغ الأهمّية بالنسبة للبنان إذ تمَّ اعتماد نهر الليطاني كنهر وطني من المنبع الى المصبّ، كما جسّد هذا اللقاء فرصة لحصول لبنان على قرض بقيمة 80 مليون دولار من أجل إعادة تأهيل مشاريع الري من سدّ القرعون الى منطقة كامد اللوز بالإضافة الى عشرة مشاريع أخرى في مناطق لبنانية عدّة، تمامًا كما جسّد القرض الذي حصل عليه لبنان عام 1962 من البنك الدولي فرصة بناء سدّ وبحيرة القرعون.
بعد أن أُقِرَّت هذه المشاريع من قبل البنك الدولي، والتي كان من ضمنها مشروعًا لتحديث الزراعة في سهل كفرحلدا في البترون وتنورين والعاقورة، وكان لا بدّ من القيام بزيارات ميدانية لمواقعها. أذكر تمامًا أن الوزير عادل قرطاس جاء حينها بتواضعه المعهود بسيارة عادية جداً يرافقه السيد جورج فخري. وقمنا بجولة واسعة إنطلاقًا من منزلنا في منطقة اللقلوق الى وادي الجرد مرورًا بوطى حوب التي كان له فيها استقبالًا مميَّزًا وصولاً الى كفرحلدا، حيث أطلقنا هذه المشاريع التي استُكمِلَت وبدأت رحلة الألف ميل في مسيرة تأهيل مشاريع الري في المصلحة الوطنية لنهر الليطاني. كان هذا القرض من أنجح القروض التي حصل عليها لبنان بشهادة البنك الدولي. لم تكن لدى وزارة الزراعة آنذاك سيارات للتنقّل أو تجهيزات، وقد عمل الوزير عادل قرطاس جاهدًا لطلب سيارات زراعية للتنقّل من ضمن هذا القرض ومعدات وتجهيزات ومختبر زراعي، بحيث أحدث نهضة كبيرة في الوزارة التي كانت تفتقر الى كل ذلك. وقد جرت عملية تأهيل كافة هذه المشاريع بتقنيات حديثة وقد نفِّذت بدرجة عالية من الشفافية وكم من مهندس عمل في إطار هذه المشاريع وأصبح بعضًا منهم اليوم مدراء عاّمون.
أهمّية عادل قرطاس باحترامه للمؤسسات. فقد تابع عمله معنا باعتماد برنامج من قبل منظمة الفاو لتأهيل المؤسَّسات العامّة للمياه والاعتناء بها ووضعنا سويًا مشاريع تأهيلية ومشاريع الـ water users association (الهيئات المستخدمة لمياه الري) التي تعتمد على ترتيب المزارعين الخ... وغيرها من المشاريع التي تُعنى باعتماد الري ضمن المؤسّسات العامّة للمياه على أسس المشاريع الكبرى وتُعطى لهذه المشاريع مهام إدارة مشاريع الري في لبنان. من نجاح الى نجاح كانت النداوت والمؤتمرات العالمية التي أقمناها بحضور فاعل للوزير عادل قرطاس وكذلك كان دائمًا يشارك في اسبوع المياه الذي كنّا نعقده بصورة دورية كل سنتين طيلة ولا يفوّت أي جلسة بالإضافة الى كبار الخبراء المحلّيين والإقليميين والعالميين. وقد كان له الدور الأساسي بقدوم خبراء أجانب الى لبنان أمثال ستيفانو بوتي وولد أحمد الذي أصبح وزيرًا في اسبانيا بالإضافة الى آخرين.
كذلك كانت تربط عادل قرطاس والمرحوم الوالد اللواء الطبيب جورج قمير صداقة عمر سادها الاحترام والمحبة والوفاء وكانا صديقَين بكل ما للكلمة من معنى حاضرَين في كل المناسبات التي تخصّهما في الحياة العامّة وضمن الحياة الاجتماعية.
عاش معظم سنوات حياته في ربوع وطن الأرز الذي أحبَّه ونقل هذه المحبّة الى أبنائه، حيث عاد ابنه الطبيب المعروف جورج قرطاس من الولايات المتحدة للإقامة في بلده وخدمة أبنائه. وقد أصيب في الإنفجار اللَّعين الذي أصاب مرفأ بيروت في 4 آب 2020 وخضع للعلاج في المستشفى، حيث بقي في العناية الفائقة مدة 3 أشهر قبل أن يتعافى ويستعيد نشاطه وهذا ما آلمه وأثَّر عليه كثيرًا كما آلمته الأوضاع الصعبة التي مرَّ بها لبنان.
ماذا نقول بعد عن عادل قرطاس، لن يتّسع المجال لذكر كل شيء. هو الانسان العظيم والكبير بإنسانيته وتواضعه، المؤمن بربّه وبوطنه، المهندس والعالِم المُتَّقد بفكره ورؤيته للواقع وللمستقبل، المؤسّس لجمعية "Les amis de l’Eau" التي من ضمنها سعى لتمويل مشروع لصالح وزارة الطاقة والمياه بإنشاء مرتكز لجمع البيانات والدراسات العائدة لكل هذه المشاريع.
كانت له أيضًا مآثر وانجازات مهمّة أثناء تولّيه مهام وزارة الزراعة لا بدّ من الإشارة اليها. فقد جهّزها بالآليات والتجهيزات اللازمة. وقد أولى اهتمامًا بالغًا بالقطاع الزراعي وسخّر كل قدراته وعلاقاته لتطوير الزراعة ومشاريع الري في لبنان. كما جال على مختلف المناطق اللبنانية من أقصى بقاعه وجنوبه الى شماله، زار المناطق النائية التي لم تطأها قدم مسؤول سابقًا ليطلع على أوضاع الزراعة والمزارعين فيها مجتمعاً بالفعاليات والمسؤولين المحلّيين لبحث إمكانية مساعدة هذه المناطق وتطوير الزراعة فيها. فقد حقّق الكثير من الإنجازات على صعيد الطرق الزراعية والمشاتل التي أولاها اهتمامًا كبيرًا بغية إنتاج الأغراس الحرجية وكان يزور المحميات الطبيعية بشكل دائم. كما اهتمّ بالثروة السمكية وتطويرها ودعم الصيادين. وسعى الى وضع سياسة زراعية، ترمي بالدرجة الأولى إلى حماية الإنتاج الزراعي في لبنان وتحديث الزراعة باعتماد التكنولوجيا الحديثة. وقد اعتمد آليات الروزنامة الراعية لحماية القطاع الزراعي والمزارعين من المضاربة الخارجية. باختصار اهتماماته غالباً ما كانت بعيدة عن السياسة إذ كانت أقرب الى المزارعين وبحث كيفية مساعدتهم لتطوير هذا القطاع.
عادل قرطاس كبيرٌ من بلادي رحل تاركًا وراءه إرثًا وطنيًا أينما حلّ من رئيس الهيئة اللبنانية للغذاء والتنمية (LAND) وعضو التجمّع الوطني للإصلاح الإقتصادي، الى وزير للزراعة الى رئيس جمعية أصدقاء المياه في لبنان... وسيتذكره الجميع بأنه لبناني كبيرٌ بعطاءاته وفكره وانجازاته ورجل دولة مميَّز.