جورج كلاّس*
الدلالة الإيمانية والفلسفية التي انطبعت بها عظات المطران جورج خضر ومقالاته المكتوبة تمجيداً والملفوظة تعظيماً، تشكل ببنيتها الفكرية واللاهوتية ركن الزاوية في الشروحات الكنسية الانطاكي، وفي كونية اللاَّهوتِ المسيحيِّ والكوزموبوليتية الانفتاحية لِعُمقيَّاتِ التلاقي السَوِي بينَ الدياناتِ والحواراتِ والحضارات.
عَرفت المطران جورج خضر، المؤمِن الشامخ من خلال (آحادِه وسُبوتِهِ) في جريدة النهار، وتعرفت إليه أعمق من خلال مقابلات طويلة أجريْتُها ضمنَ مَلفّاتٍ في (ثقافية النهار) بإشراف شوق أبي شقرا، وأبرزها ملفّانِ شاركَتْ بهما نُخَبٌ مُفَكِّرَةٌ ومُثّقفة، هما (المُثَقَّفُ والإيمان) و(المُثقَّفُ والمَوْت)...
وأدمنت التثقف عليهِ والغرف من شموخيته ومهابَةِ فكره الى أن أصبحت من مُريديهِ ومُقلِّدي فِكرِهِ الإيمانيِّ المنبسط شَرْحاً في المَنظوراتِ، والعَمِيقِ الغَوْرِ في الماورائيّاتِ، والذي أَجْهَدَ واجتهد لابتكارِ مصطلحات وتَوليفِ تراكيب ولفظيات تتوافق مع مخزونه الفكري وفلسفةِ الإيمانيات العقيدية التي كان يَستنِدُ إليها في كتاباته وعظاته وقولاته لتتواءم مع مستلزمات أي ظرف ومتطلبات أي مَوقف.
في منهجية نَقْدِ الخطاب وفهمه، تَعَلَّمْنا قاعدة ذَهَباً في عمليةِ التفكيك والتَحليلِ، مفتاحها أن أول قطعة تُفكّك بهدفِ التحليلِ والفَهمِ، تكون آخر قطعة علينا رصفها في إعادةِ التركيب.
من هذا المنظورِ الأسلوبي الكثير المعجميات المتخصّصة في الدينِ والفلسفة والتاريخ والحضارة، بَنى المطران جورج قاموسه الكتابي الخاص، وأسست مدرسة فكرية إلهامية، انتسب إليها كثيرون عن فهم وقصد وإرادة شديدة بالتثقف، انضَمّ الى صُفُوفِها كثيرون رغبة بالاستزادة والفهم أكثر، لأن الناهل من نبعه يغب غباً متى غرف ورشف واستهنأ، ويتمنّى لو أن بمقدوره أَنْ يعتمد بمَجرى ماءِ فكره مَرَّتَين.
في مجموعةِ عظاته ومقالاته الصادرة في مجلدات ثلاثةٍ بعنوان المُعَلِّمُ، والموزعة على ثلاثةِ محاور متكاملة المواضيع ومتقنة التصنيف ومُحكمة التوثيق بين الأعياد السيديّة والقديسين وآيات وطقوس، والتي أهداني إياها القاضي الرئيس نسيب إيليا، حَرِصَ سيادتُهُ على أَنْ يكتب للنخبة التي تريد أَنْ تقرأ وتَغتذي وتنمو بالمعرفة. ولمْ تَكُ أسلوبيته هذهِ شكلاً من صنوف الكتابة الارستقراطية أبداً، بل إنه لشدة غرقه بالمسيحِ فكراً وإيماناً وسلوكاً، وتشبّهاً بالسيد وجَعاً وحِكمة وحباً بالمَصلوبِيّةِ، جاءَتْ مَقالاتُهُ كِتاباتٍ نوعية وأفكاراً متنوّعة ونسيج وَحْدِه.
وهذهِ من علاماتِ التمايز في صِناعةِ الكتابةِ المَضغوطَةِ والشديدةِ الاختزالِ والكثيرةِ اللُصُوقِ بالمَقاصِدِ التي ارتكزت عليها بِنائِيّاتُ النص المختلف.
المطران الملفان جورج خضر، علّامة بِبَساطَتِهِ، فَهّامَةٌ بطروحاتِهِ، رسولي بِعظاتِهِ العمقية، ومِثالِيٌ بِفقْرِهِ الى اللهِ الذي نراه في محيّاه، والعفيف بشدة عن مباهِجِ الدنيا، والدائم التَوْقِ لملاقاة ربهِ بثوبه الأبيض الكثير النورِ وطَلَّتِهِ ذاتِ البَهاءِ الباهِر.
سِرُّ المِهنَةِ في أسلوبيِّةِ كتاباته العِظات التي توزّعت بين ١٩٧٢ و٢٠٠٥، أَنَّه كان يعرفُ ماذا يكتبُ، وعن ماذا يكتبُ؟ وكيفَ يكتبُ؟ ومتى لا يكتُبُ؟
لكنَ اللغْزَ الأصعَبَ كانَ في السؤال الخامس لِمَنْ يَكْتُبُ؟
وفي مقالٍ لي في النهار ١٩٩٩، حول أسلوبياتِ الخِطابِ في عظاتِ المطران جورج خضر ومقالاته، والتي كانتْ تُشْكِلُ أفْهامُها على كثيرين لإغراقهِ نَصَّهُ بالفلسفياتِ والتعريفاتِ والاستشهاداتِ الكِتابيّة، انتهيتُ الى خُلاصَةٍ، على مسؤوليتي، هي أنَّ المطران جورج خضر يَكْتُبُ لِيُسْمَعَ ويُفْهَمَ، بمعنى أنّه يكتُبُ للأُذُنِ لا لِلعَينِ... حَسبُهُ أنَّهُ مَذْبَحِيٌ يرى الى كلِّ الناس على أنّهم جالسونَ في الصفوفِ الأولى لكنيسة الأحدِ، وأنّهُ الواعِظُ/ الراعي الحَريصُ على الخرافِ، والجَوهَرجِيُ الصائِغُ الذي يَحْتَرِفُ تَركيبَ الدُرَرِ في واسِطَةِ العِقدِ الكثيرِ الفرادةِ والغنيِ بالجَمال...
المطران جورج خضر، اللبناني العربي الفخورُ بِمَجْديّاتِ كنيسته البيزنطية الأنطاكية، هو الرسول الثالث عشر من تلامذةِ المُعلِّمِ الربّ الأحياء.
تشرفت تبركاً ذات يوم بِزيارَةِ سيادةِ المطران جورج خضر في مقرِّ المطرانية ببرمانا وكانتِ جلْسَةً عابقَة بذكريات، اسْتفاضَ سيادتُهُ بِنَبشِها من مَخزوناتِ فِكْرِهِ الوَقّادِ وعِلْمهِ الواسعِ وروحانياته البخورية، التي يَسْتَلِذُّها كُلُّ مُريدٍ للفَلسفةِ العقليّةِ، ويَستَعذِبُها كُلُّ توّاق لِلّاهوتِيّاتِ النَقِيَّةِ والأفكارِ الانفتاحيّة والسلامِيّة.
في حَضرَتِهِ، تشعرُ بأنكَ في هياكلِ الإغريقِ، أوْ في أروقةِ الأكاديميَّةِ الفرنسيّة، ومَحاربِ الفكرِ الإسلامي أَوْ أنك في مجمع لغوي وفَلسفي فِكْرِيٍّ إغريقي عريق.
المطران خضر، قيمة روحية مسكونية مشرقية بيزنطية عربية لبنانية يستحق أنْ يكونَ عنوان لبنان !
هو رجلُ إيمانٍ يلبس البساطَةَ اسكيماً !
دائِمُ البَسْمَةِ، رَضِيُّ المُحَيّا، وَفيرُ النِعَمِ كثيرُ البركاتِ...!
معهُ، تعيشُ أنّكَ ابْنُ الربِّ وأنَّ الله الذي نُحِبُّ، هو ليسَ اللهُ الذي تعالى وتعالى حتى صارَ بعيداً عَنَّا، بَلْ هو اللهُ الذي تنازلَ وتنازلَ حتى صارَ قريباً منّا وتفاعل معنا وعاش بيننا وسكن فينا.
كتاباته وليمة فكريّة وروحية زاخرة بالمشهّيات اللذة، والقدسية النَكْهَة.
هو المطرانُ رَجلُ الإيمانِ، الذي تَليقُ بِهِ الكرامة والفيلسوف الايماني اللابسُ اللَّه بساطةً وسلوكاً، قالَ كلمته وقرَّرَ أَخْذَ نقاهةٍ من العملِ في حَقْلةِ الربّ. هو تقاعد من الخدمة وما تقاعد عن المحبّة وشعاعية الفكر المنير ودوام العطاء!
هو استجابَ لنداءِ العُمْرِ، أصْغى الى جسدهِ، واختارَ أنْ يبقى للكنيسة ومع الكنيسةِ وفِي الكنيسة مكللاً بِنعمةِ الروحِ القدس وملتحفاً بالنور الإلهي !
اللَّهُمَّ أَعْطنا نقاواتٍ مَنْ أمثالهِ حتى تبقى خميرةُ الروحِ في مخازن حنطةِ هذا العالم الترابيّ...!
أَمَدً الله بعمركَ يا مطران الكلمة ومنحك بركاته الإنجيل الحيّ الذي شدّني إليه بهَدأَةِ وقارِهِ وعظمةِ فلسفتهِ وبساطةِ عَيْشِ الإيمانِ...
هو الكلمة التي قالها من قلبهِ وعقلِه، وأنْصتَ اليها مريدوهُ، وردَّدها مُقَلِّدوه بِدَمْعِ فرحِ الاسْتكانةِ الى نِعَمِ الآب...
هو الذي تعلمت عَلَيْهِ في عِظاته النهارية، كيفَ نصوغُ الكِتابةَ للأُذُن، وكيفَ نقرأُ ببصيرةِ الفَهْمِ المَقْذوفِ في الصدورِ. نقرأُ ولا نشبَعُ، نَفهمُ ونسمو، ونعيدُ النَهْلَ لِنَنْموَ بالمعرِفةِ أَعْمَق...!
أقمار أرثوذوكسية ثلاثة، تعلَّمْتُ منهم وتربّيْتُ على نورانيَّةِ فِكْرهم العُمْقِيِّ، ولَمّا أزلْ أَغْرفُ من مَفْجَرِ نباغتِهم وصوانية شخصيتهم، قَدْرَ ما تَيَسَّرَ لي مِنْ فَهْم، وما رغبته من مدارك، هم: المعجمي الدكتور جبّور عبد النور، الفيلسوف الواقعي غسّان تويني، ومطران الكلمة جورج خضْر...!
ولكَ يا أخي القاضي الرئيس نسيب إيليا، فَضْلٌ أَوَّل بأَنْ وَفَّرْتَ لي اللقاءَ بسيادته ومِجالستِه، والعَيْشِ في مهابةِ حَضْرتِه فَتَراتٍ، شعرتُ في خلالها بأنني عُدْتُ الى مقاعدِ الدَرْس. هو يتكلَّمُ بِقطعِ النفَسِ، وأنا أدوّن بعقلي ما تمكنت منْ لحاقه، عارِفاً أنَّني أمامَ هامةٍ قامَةٍ، وعقلٍ اسْتثنائي وَفِير المعرفةِ، كثير الثقافة، عميقِ اللاهوت.
وفاءً، للمطران جورج خضر، نُصلّي: لكرامةٍ غزيرةٍ يا سيِّد.
بلاغةُ عدالة القاضي وروحانية فلسفة اللاهوت الأبيض حفّزاني على التبصّر والصفنِ والكلام، فكتبتُ من بعضِ ما كتبَهُ فِيَّ المُعَلِّم، ودعوت لأن يكون أمثاله كثيرين.
*وزير الشباب والرياضة