بصمت رحل، كما امضى حياته مكباً على البحث والعلم، سابرا اغوار الاسلام في علاقت بالمسيحية، مترجما علوم المسلمين، الى اللغة الالمانية، ليصبح مرجعا في هذا الشأن، وهو الراهب الكاثوليكي اللبناني المشرقي. مؤلفاته لا تحصى، خدماته العلمية والبحثية كثيرة وغنية. لم يخرج من صومعته الا نادرا، في الفترة الاخيرة، حيث امضى ايامه الاخيرة، في دير للراهبات، مصلياً ومتأملا، يستعد للقاء ربه. لبنانيون كثيرون يعرفونه وقد نهلوا منه، واخرون يعرفونه من خلال شقيقه الراهب البولسي ايضا، والفيلسوف بولس الخوري. انه الاب عادل تيودور خوري الذي غادرنا قبل ايام. ونعيد هنا نشر مقال عنه نشر في "النهار" بتاريخ 23-08-2022 بقلم مشير باسيل عون .
يطوي العلّامة اللبنانيّ الأب عادل تيودور خوري عامَه الثاني والتسعين في عناية راهبات مار منصور بمدينة بون الألمانيّة، وذلك من بعد أن حفلت حياتُه بالإنجازات الفكريّة اللاهوتيّة الحواريّة، وزيّن المكتبات الجامعيّة الألمانيّة بأرقى الأبحاث اللاهوتيّة الحواريّة التي أنشأها على تعاقب ستّة عقود من نشاطه الفكريّ. ذاع صيته في الأوساط العلميّة الألمانيّة من بعد أن نشر عشرات الكتب التي تناول بها مسائل الحوار المسيحيّ-الإسلاميّ. وترسّخت مرجعيّتُه العلميّة حين نقل إلى الألمانيّة معاني النصّ القرآنيّ يعاونه محمّد سليم عبدالله، واستجمع باللغة الألمانيّة شتيتَ التفاسير القرآنيّة في اثني عشر مجلّدًا، وخلاصة الأحاديث النبويّة الموثوقة في خمسة مجلّدات، نُشرت كلّها في دار غُتِّرسلوهر (Gütersloher) الألمانيّة. وما لبثت الكنيسة الكاثوليكيّة أن اعترفت بجليل إسهاماته، فعيّنته مستشارًا دائمًا في مسائل الحوار المسيحيّ-الإسلاميّ، واستند إليه البابا بنديكتُس السادس عشر في بضعٍ من محاضراته، لاسيّما تلك الشهيرة التي ألقاها في جامعة رِغنسبورغ الألمانيّة في 12 أيلول 2006.
الأب عادل تيودور خوري سليلُ أسرةٍ لبنانيّةٍ جنوبيّةٍ (ديردغيا، قضاء صور) اتّصفت بالتقوى والتواضع والعلم، نبغ منها شقيقُه الفيلسوف الناسك بولس الخوري الذي ودّعه لبنان منذ بضعة شهور. التحق بجمعيّة الآباء البولُسيّين (حريصا، كسروان)، فدرس اللاهوت والفلسفة في معهدها العالي، ونال الإجازتَين. وانتسب في إثر ذلك إلى معهد الآداب الشرقيّة (جامعة ليون، فرع بيروت)، وحاز الإجازة الجامعيّة في العلوم الشرقيّة. بعد سيامته كاهنًا على مذابح الجمعيّة البولُسيّة (حريصا)، انتقل إلى جامعة ليون ليُعدّ أطروحة الدكتوراه في المجادلات البيزنطيّة-الإسلاميّة وينال الرتبة بجدارةٍ العامَ 1966.
في إثر ذلك، أصرّ على مواصلة أبحاثه اللاهوتيّة، فأعدّ في جامعتَي لوڤَن البلجيكيّة ولايدن الهولنديّة أطروحةً ثانيةً تؤهّله للحصول على رتبة الأستاذيّة. وعُيّن بعد ذلك أستاذَ علوم الأديان في كلّيّة اللاهوت بجامعة مُنستر الكاثوليكيّة الألمانيّة، وعُهِد إليه منذ العام 1970 بإدارة حلقة علوم الأديان في الكلّيّة عينها. بعد حصوله على الأستاذيّة، أخذ يعتني بتحليل الظاهرة الدِّينيّة وفقًا للمنهج الفِنومِنولوجيّ الذي يتقصّى جواهرَ المعاني التي ينطوي عليها الاختبارُ الإيمانيّ في كلّ دينٍ على حدة، وعكف على دراسة تاريخ الأديان، لاسيّما الإسلام والهندوسيّة والبوذيّة. وما لبث أن تفرّغ للبحث في العلوم الإسلاميّة وفي قضايا التحاور المسيحيّ-الإسلاميّ.
وعلاوةً على نشاطه التدريسيّ الجامعيّ، أكبّ يبحث في أصول الدِّين الإسلاميّ وفي لاهوت الحوار المسيحي-الإسلاميّ وروحيّته وأحكامه. فعمد أوّلًا إلى إنشاء الكتب الألمانيّة التي تشرح للقارئ الألمانيّ مبادئ الإسلام وتُبيّن له خصائص الروحيّة الإسلاميّة. وما لبث أن أدرك حاجة المجتمع الألمانيّ إلى الاطّلاع على أمّات الكتب الإسلاميّة. فعكف على ترجمة معاني القرآن ومختصر التفاسير (12 مجلّدًا) وموجز الأحاديث (5 مجلّدات). فإذا به يسدّ ثغرةً معرفيّةً في المكتبة اللاهوتيّة الألمانيّة. لا عجب، من ثمّ، أن تضعه أبحاثُه الإسلاميّة واجتهاداتُه اللاهوتيّة الحواريّة في مقام المرجعيّة الفكريّة الألمانيّة والأوروبّيّة والعالميّة. فإذا بالجامعات الألمانيّة والأُوروبّيّة تستضيفه لإلقاء المحاضرات، وإذا بالمنتديات الحواريّة تسأله الانضمام إلى مجالسها عضوًا فاعلًا يُسهم في تعزيز روح الانفتاح والمحاورة الحضاريّة الراقية. فانتُخب عضوًا في أكادِيميا العلوم والفنون الأُوروبّيّة (Europäische Akademie der Wissenschaften und Künste)، وعُيِّن عضوًا في معهد القدّيس جبرائيل اللاهوتيّ بڤيينّا (مُدلينغ).
بالرغم من الإشعاع الفكريّ العالميّ، لم يُهمل الأب عادل تيودور خوري جذوره الشرقيّة وانتماءه اللبنانيّ. فظلّ أمينًا على دعوته الكهنوتيّة التي اغترف روحيّتَها من رسالة اللسان والقلم التي استندت إليها جمعيّة الآباء البولُسيّين (حريصا) منذ نشأتها. وكان حريصًا على استثمار مواهب فكره في نشر ثقافة الحوار المسيحيّ-الإسلاميّ في المجتمعات الأُوروبّيّة والعربيّة على حدٍّ سواء. التقيتُه، وهو على مشارف سنّ التقاعد الجامعيّ، العامَ 1992 في ألمانيا، فرحّب بي أيّما ترحيب، واستحصل لي على منحةٍ بحثيّةٍ من جامعة مُنستِر الألمانيّة ساعدتني في إنجاز أطروحتي التي كنتُ أعدّها في جامعة كان النورمانديّة في فلسفة مارتن هايدغر. ولم تكن هذه المنحة خطوةً وحيدةً، بل كان يعمل في الخفاء من أجل الاستحصال على منح دراسيّة جامعيّة كاملة يهبها ألمعَ طلّاب اللاهوت في المعاهد اللاهوتيّة الكاثوليكيّة والأرثوذكسيّة والمارونيّة والسريانيّة الناشطة في لبنان.
بفضل المنحة البحثيّة هذه، أقمتُ في مدينة مُنستِر الألمانيّة من أجل الاطّلاع عن كثب على نصوص هايدغر الألمانيّة، والإفادة من الأبحاث الفلسفيّة الألمانيّة التي تناولت فكرَه. وكنتُ أتردّد على البروفسّور خوري في مكتبه بجامعة مُنستِر نتساقط الأحاديث ونتطارح الآراء بشأن مصير المسيحيّة الشرقيّة في لبنان والأوطان العربيّة. في هذه الأثناء، أدركتُ عنده عمقَ البصيرة ووضوحَ الرؤية، إذ طفق يحثّني على الاعتناء بمسائل الحوار الدِّينيّ بين المسيحيّة والإسلام، وفي يقينه أنّ الفلسفة الألمانيّة طورٌ متقدّمٌ من أطوار التنظير الذهنيّ الراقي، في حين أنّ الوضعيّات الجيوسياسيّة الوجوديّة في المجتمعات العربيّة تستلزم الاعتناء بقضايا التلاقي والتحاور والتعاون. فانتهى بي المطاف إلى معاونته في إنشاء مركز الأبحاث في الحوار المسيحيّ-الإسلاميّ المرتبط بمعهد القدّيس بولس للفلسفة واللاهوت (حريصا، كسروان)، وقد خصّص للمركز الحواريّ الناشئ من حقوق نشر مؤلّفاته الألمانيّة قسطًا ماليًّا وافرًا لتدعيم ميزانيّته. منذ مؤتمر الافتتاح الأوّل، حرّضني على مساعدته في إنشاء سلسلةٍ بحثيّةٍ لاهوتيّةٍ (المسيحيّة والإسلام في الحوار والتعاون) صدر منها حتّى اليوم في منشورات المكتبة البولُسيّة حوالى 80 جزءًا تناولت أخطر المسائل الحواريّة التي أسهمت في معالجتها كوكبةٌ من ألمع لاهوتيّي الحوار اللبنانيّين والأُوروبّيّين.
أمّا أبرز ما اتّصفت به أبحاث الأب عادل تيودور خوري اللاهوتيّة الحواريّة، فالموضوعيّة العلميّة، والاستقصائيّة المتطلّبة، والانفتاح الودود، والتعاطف النقديّ، والصبر الجميل على المعاكسات التاريخيّة والإبطاءات الذهنيّة التي تُبتلى بها المجتمعات المتباينة المتجابهة. من مقتضيات الموضوعيّة العلميّة التي كان يعتمدها في جميع كتاباته أن يحرص الباحثُ المسيحيُّ على فهم الدِّين الإسلاميّ فهمًا يلائم ما يرتاح إليه المسلمون في التعبير عن أرقى ما يختزنه تراثُهم الفكريّ. ذلك بأنّ أبشع الجرائم اللاهوتيّة أن أتصوّر الآخر تصوّرًا مستندًا إلى ذاتيّتي الخاصّة، بحيث أطبق عليه وأقيّده في نطاق رؤيتي اللاهوتيّة الخاصّة. تستوجب الاستقصائيّة المتطلّبة أن يتحرّى المحاورُ المسائلَ في مظانّها الأصليّة، من غير أن يقتصر بحثُه على ما يقع تحت نظره من المستندات المعروفة. أمّا الانفتاح الودود، فيُملي على لاهوتيّي الحوار المسيحيّ-الإسلاميّ أن يتخلّقوا بأخلاق المودّة، وأن يوسّعوا آفاق تصوّراتهم واقتناعاتهم حتّى يُدركوا في عمارات الآخرين الفكريّة غلبةَ عناصر الجمال والرقيّ على عوامل الفساد والانحراف.
بيد أنّ ذلك كلّه لا يستقيم ولا يلبّي مقتضيات الحقيقة ما دام المتحاورون لم ينهجوا سبيلَ التعاطف النقديّ الذي يروم مساعدة الذات والآخرين في تقويم الاعوجاجات، وتشذيب النتوءات، وتنقية الشوائب، واستجلاء الالتباسات. غالبًا ما انطوت كتاباتُ الأب عادل تيودور خوري على دعوةٍ صريحةٍ تستحثّ المسيحيّين والمسلمين على الاعتراف بمواضع التقصير في أنظوماتهم اللاهوتيّة وبمحن التشويه في نصوصهم وتعابيرهم. فالحوار لا يعني امتداحَ الضلال الذي استقرّت عليه الأنظومة الدِّينيّة في طورٍ مظلمٍ من أطوارها التاريخيّة المتعاقبة. لذلك ينبغي الاعتصام بالصبر على تناقضات الفكر والمسلك. هنا أستذكر عبارتَه الشهيرة التي كانت تُدهشنا بغرابتها الإلهاميّة: الصبر على العلم. أعتقد أنّ مثل الفضيلة الفكريّة هذه تمنح أهلَ الحوار القدرةَ على تخطّي الانسدادات الطارئة والتشنّجات العابرة حتّى تنجلي ظلماتُ الشكوك المعطِّلة وتنحسر شُبُهات الظنون المربكة.
هذا في المنهج الحواريّ الذي اعتمده الأب عادل تيودور خوري في أبحاثه الحواريّة. أمّا مضامين اقتناعاته اللاهوتيّة، فتجلّت في تأييده التعدّديّة الأصليّة التي ينطوي عليها التدبيرُ الإلهيُّ في سموّ حكمته المتعالية. إذا كان الناس على مثل الاختلاف الدِّينيّ المغني هذا، فلا بدّ من تصوّر الهويّة الذاتيّة في طور الاختمار والإنضاج، تستمدّ حيويّتَها التكوينيّة من احتكاكها التفاعليّ بهويّة الآخرين. لذلك كان يُصرّ على إعادة تأويل عناصر الهويّة المسيحيّة والهويّة الإسلاميّة تأويلًا مستندًا إلى مبدأ هويّة المعيّة المتفاعلة (Miteinanderidentität). يستحضرني هنا ما قاله لي ذات يومٍ بشأن مسالك الإصلاح المنشود في العمارة اللاهوتيّة المسيحيّة والعمارة الكلاميّة الإسلاميّة، إذ أظهر معارضته الشديدة كلَّ أصناف الإصلاح الجذريّ الذي يجرّد المسيحيّة والإسلام من الخصوصيّات اللصيقة بتراثهما الفكريّ. كان اقتناعه الأرسخ أنّ مُصلحًا فكريًّا عظيمًا كاللاهوتيّ الكاثوليكيّ السويسريّ هانس كُنغ (1928-1921)، وناقدًا مجدِّدًا استثنائيًّا كالعلّامة محمّد أركون (1928-2010)، لا يمكنهما أن يطوّرا الأنظومتَين الفكريّتَين المسيحيّة والإسلاميّة، إذ إنّهما خرجا منها وعليها، وأخذا يبنيان عمارةً جديدةً معاصرةً لا يشعر المؤمنون المسيحيّون والمسلمون بالانتماء الوجدانيّ إليها. فالإصلاح، في نظره الأب خوري، ينبغي أن يعتمل ويختمر في الداخل المقيَّد بضرورات التفاعل المضني الواعدة، لا أن ينشط في الخارج منعتقًا من اعتبارات البطء الإنضاجيّ وضرورات التسويات الاختماريّة، ومستفيدًا من حرّيّة القطائع الإبّيستِمولوجيّة المعرفيّة الحادّة.
سأكتفي بهذا الحدّ من السيرة الفكريّة البهيّة التي تزيّنت بها شهادة الأب عادل تيودور خوري الإيمانيّة الفكريّة اللاهوتيّة. في صميم اقتناعه أنّ المجتمعات الإنسانيّة، لاسيّما في العالم العربيّ، تحتاج إلى فكرٍ حواريٍّ مستنيرٍ يُنقذها من ضلال جهلها المتفاقم. غير أنّ لاهوت الحوار المسيحيّ-الإسلاميّ لا ينهض عندنا إلّا بعد أن يتخصّص له رجالٌ ونساءٌ يُعدّون له العدّة الذهنيّة والفكريّة والروحيّة اللازمة، ويتفرّغون لمقتضياته تفرّغًا صادقًا، حاصرين له قواهم وطاقاتهم وأوقاتهم، ومُكبّين عليه بجرأة النقد الإصلاحيّ والتأويل التجديديّ. أمّا إذا ظلّ الأمرُ بخلاف ذلك، فإنّنا سنرى بين ظهرانينا أناسًا ينتفون العلوم الدِّينيّة نتفًا، ويُهملون جواهرَ الأمور. من هذه الجواهر ما قاله الأب خوري في البحث الذي أنشأه في ختام سيرته الفكريّة واستودعه السلسلة الجديدة التي نشرها في المكتبة البولُسيّة (مسيحيّون ومسلمون في سبيل التضامن والمودّة): "إنّ التاريخ موطنُ تفتُّح حقيقة الله في معرفة البشر وحياتهم، أفرادًا وجماعاتٍ. فإنّ هذه الحقيقة، وفقًا لما نعرفه منها اليوم وفي أفق اختبارنا، ليست وثيقةَ أوامر أزليّة صيغت مرّةً واحدةً في عباراتٍ وقواعدَ ثابتة. إنّها تهيب بنا أن نتلمّس محتوياتها ونطّلع على مواقع تطبيقها، بشكل متواصل، في ضوء تاريخنا المتسلسل" (عادل تيودور خوري، انطلاقة جديدة من أجل عيشٍ مشتركٍ في ظلّ المودّة، المكتبة البولُسيّة، جونيه، لبنان، 2011، ص 64).