أخرجت الزميلة دلال معوض بإصدارها الأول "كل ما خسرت" عن منشورات بلومسباري Bloomsbury في بريطانيا، مجموعة نساء من صمتهنّ، من خلال تعبيرهن عن مأساة الانفجار المشؤوم في 4 آب 2020 الذي اغتال مدينة بيروت وناسها، تاركة الكلام لهنّ للتعبير عن الألم البنيوي والنفسي والحياتي المرافق ليومياتهنّ.
يدخل أسلوب معوض في نمط سردي برزت بواسطته قدرتها الصحافية على وصف الواقع المأسوي لكل منهنّ لتتوسع رقعة العنف إلى الوطن كله.
إذا كان مضمون العنوان باللغة الإنكليزية يحمل كلمة "هي" بصفتها ضمير رفع منفصل للمفردة المؤنثة. فهي في سياق فصول الكتاب نفسه تتعدى المرأة لتشمل الدولة، بيروت المجروحة والوطن كله.
تحمل معوض في طيات كل صفحة همّاً بارزاً وواضحاً من معضلة فقدان الذاكرة أو حتى ضعفها في تخزين الواقع المرير الذي عشناه في 4 آب 2020 وما بعده، خوفاً من الوصول إلى العدم أو عدم محاسبة أي مجرم أو متورط في هذا الانفجار الدموي، مع تداعيات مأساة نساء عدة ومن هذه التداعيات خسارة الزوج جراء الانفجار والتي نتج عنها عوائق جوهرية في حضانة الأولاد وقانون الأحوال الشخصية وصعوبة الحصول على التعويضات المالية لترميم المنزل المدمّر الذي سببه الانفجار.
لا شك أن الكتابة النسوية لتجربة نحو 20 امرأة ومنهن لاجئتان سوريتان وعاملة أجنبية، تُبرز هيمنة الحزن والحرمان في كل قصة، وتعطي بعداً إنسانياً لواقع ملموس برزت بتأثيره حقيقة نقل جهود النساء وإنصاف بصماتهن وإبرازها في مراحل تاريخية مهمة، وحصر أدوار البطولة بالذكور لا بالرجال.
قبل عرض لمضمون لقائنا مع معوض، لا بد من الإشارة الى أن اعتماد اللغة الإنكليزية في كتابة هذا الإصدار هو خطوة بناءة لتعميم هذه القصص على العالم كلّه، علّها تشكّل مثالاً للوجع والألم عند الرأي العام في أكبر رقعة ممكنة من العالم.
قصص وبعد
بصوت محكوم بالغصة والحزن، تحدثت معوض لـ"النهار" من مركز إقامتها في باريس عن هذه القصص المجموعة في إصدارها الأول المرتبط "عضوياً" بفاجعة 4 آب، مشدّدة على انعكاس الانفجار الدرامي عليها، ما دفعها إلى الانتقال مع ابنتها إلى باريس، في محاولة - غير مجدية - للبحث عن انتماء إلى مكان ما.
عبرت عن الخوف الشديد الذي تملّكها على مصير ابنتها الصغيرة ومستقبلها، بعد الانفجار الشديد، وهو عيّنة من كثيرين يعيشون الهمّ نفسه.
هذا الواقع المحكوم بالضياع ينعكس على الهوية التي تحكمها شخصياً، وفقاً لها، كما حال الكثيرين، في شتات بين الغربة والضياع في الوطن الأم، يقابله عدم الانتماء إلى أي مكان في بلد الإقامة.
اعتبرت معوض أن قصص النساء في الكتاب اللواتي عانين من مأساة الانفجار، كشفت وجهاً آخر لمأساة أخرى قاربت بواسطتها مأساة الأرامل مع قوانين المحاكم الروحية المجحفة في حق النساء، وخشية كل منهنّ على حضانة الأولاد بعد وفاة الزوج جراء انفجار المرفأ.
توقفت عند قصّتيّ كل من سهى جعيتاني وكارين الحتّي، اللتين واجهتا بعد وفاة زوجيهما جراء الانفجار إجحافاً حاداً من قوانين الأحوال الشخصية وحق حضانة الأولاد، إضافة الى صعاب كبيرة تواجه الأرملة في تحصيل التعويض المالي في ظل غياب الزوج، ما فرض اللجوء الى وصي ذكر أي شقيق زوج سهى وأحد أنسباء العائلة الذكر لكارين لمتابعة آلية صرف هذه التعويضات".
أكدت معوض أن الأمر يسري أيضاً على ليليان شعيتو التي تُعالَج إلى اليوم من أضرار فادحة جراء الانفجار. فقد واجهت، وفقاً لما روت شقيقتها لمعوض، مشكلات مع المحاكم الجعفرية وما رافقها من تدخلات سياسية لصالح عائلة الزوج وحرمتها حق الحضانة.
الضحية ليليان شعيتو في لقاء مع ابنها في المستشفى.
لم تستثنِ معوض شهادة من أسرة "النهار"، عانت كثيراً من تداعيات الانفجار إن في عدد جرحاها أو الأضرار الفادحة في طابقي عمل أسرة تحرير الجريدة وعامليها.
أصغت معوض الى شهادة الزميلة سلوى بعلبكي المدرجة في فصل في الكتاب يحمل عنوان " التاريخ يعيد نفسه،" موضحة أن شهادة بعلبكي كشفت فعلياً مدى تأثّرها الشديد في محطات عنيفة من الحرب اللبنانية.
سلوى بعلبكي.
لفت نظر معوض في حديث بعلبكي أنها تذكرت مرارة الحرب كلها بعد رؤيتها الزميل السابق في موقع النهار العربي خليل حرب مصاباً جراء الإنفجار المشؤوم وهو ممدد تحت الطاولة، مشيرة إلى أنه مر في ذاكرة بعلبكي، كما نقلت لها من خلال هذه اللحظة، مشاهد مرّة من الحرب الأهلية ومنها قصف إسرائيل للضاحية مثلاً، كاشفة من خلالها أن انفجار 4 آب 2020 أعادها إلى مراحل سابقة من العنف الذي تكرر في ذلك اليوم المشؤوم.
تريسي نجار هي من النماذج التي حرصت معوض على الحديث عنها في لقائنا. "هي صديقة قديمة"، قالت معوض على الهاتف.
لفتت الى أن "قصة حياتها مؤلمة قبل وقوع الانفجار لأنها خسرت والدتها يوم زفافها"، مشيرة الى أنها "اعتقدت أن ولادة إلكسندرا أو ألكسو ستعوّضها وفاة والدتها، وهو ما حصل عكسه من خلال موت الصغيرة إلكسندرا في ذلك الانفجار...".
ترايسي وبول نجار يحملان لوحة تعبيرية لابنتهما الضحية الكسندرا.
أثنت على الوجه الحقيقي لتريسي نجار المتسلحة بالقوة والشجاعة فعلياً كما تبدو أمام عدسات الكاميرا، قالت: "تريسي قادرة على مواجهة الأمور وتتسلح وزوجها بول بكثير من الصلابة والقوة للعمل معاً من أجل العدالة في هذا الملف".
ورداً على سؤال عما إذا كانت التقت بوجوه جديدة لم تعبر عن وجعها وهواجسها بعد، أكدت أنها التقت سهام تاكيان التي خسرت بسبب الانفجار المشؤوم دكانها في شارع مار مخايل الذي يعتبر مورد رزقها الوحيد.
وأوضحت أن تاكيان في مرحلة الشيخوخة، تعيش وحيدة في حياتها لتكون نموذجاً للمرأة المربكة أمام كمٍّ من الأزمات الاجتماعية بعدما تكبدته من خسائر فادحة طالت دكانها.
تحمست معوض عند الحديث عن قصص معاناة كل من كوزيت خيرالله المعروفة بكوكو (86 عاماً) التي أعطتها بعض الأمل أثناء حديثها عن الزمن الجميل في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وصولاً إلى العودة إلى صعاب هذا الزمن الرديء.
قصة أخرى نقلتها معوض عن منى مسيتو من الجنسية السورية المقيمة في بيروت منذ العام 1997 والتي فقدت ابنتها في الانفجار المشؤوم لتضاف إلى سجل المأساة قصة أخرى لها مع العنف الأسري من رجل يعيش يومياته وهو في حال من الثمل، لا يمتلك أي سيطرة على تصرفاته ومنها تعنيفه أولاده وزوجته، مشيرة الى العذاب المضني الذي عاشته قبل حصولها على الطلاق منه وما ترتب على ذلك من تضحيات سابقة لتحمّل الأمرّين منه، إضافة إلى صعوبة حصولها على التعويضات المالية لترميم منزلها المتضرر من ذلك الانفجار المأسوي".
انتقلت معوض إلى نور كرامي المسعفة في الصليب الأحمر التي كانت تتحدث للمرة الأولى عن الانفجار بعد خضوعها لعلاح نفسي ساعدها على التعبير عن مشاعر الخوف والغضب مما جرى.
تحوّلت الكتابة عند معوض إلى مسار بحث تخلّله الكثير من البكاء والانهيار والعجز عن تغيير واقع مأسوي عند النساء اللواتي التقتهن.
ختاماً، أسفت معوض على تشبيهها لبنان بواقع حال لارا الخوري التي قابلت أفراد عائلتها. هي تعيش بعد إصابتها في غيبوبة محاطة بأجهزة خاصة بالعناية المشددة.
تتطلع معوض إلى بلد فيه محاسبة وعدالة، وهذا يتعارض مع واقع حالنا المتشرذم في خضم هوية ضائعة.
Twitter:@rosettefadel