لم يكُن خالد يتوقّع أنّ يوم 4 آب سيكون يومه الأخير في اصطياد السمك مقابل المرفأ، بعدما بات مُقعداً بسبب إصابته في الانفجار. ولم يكُن ميخائيل يُدرك أنّ إصابةً في ركبته قرب مستشفى الروم ستحرمه من ممارسة عمله في توزيع الغاز بشكل طبيعيّ، فقد عجزَ راهناً عن صعود الأدراج. أمّا ميرنا، السيدة ذات البريق الثلاثينيّ، فقد ملّت الانتظار لعامَين لإيصال صوتها إلى مسؤول في وزارة الصحة، تطمح أن يساعدها على إجراء عمليّة في قدمها، كان يجب إجراؤها بعد العام الأول من الانفجار.
صرخات تنقلها "النهار" من وَجع ضحايا الانفجار، فيما الآلاف في الظلّ، يواجهون معاناتهم الجسدية والنفسية بصمتٍ، بعدما أضحوا من ذوي الاحتياجات الخاصة "موقّتين أو دائمين"، وأضحت حياتهم "جحيماً" في بضع ثوانٍ.
خالد دياب: 55 عاماً
تعرّض خالد دياب لإصابتَين في وجهه وقدمه، ولجأ إلى العلاج في المستشفيات الميدانيّة خلال يومَين من الانفجار، إلّا أنّ الصدمة كانت بعد أسبوع، حين شعر بانحلال في قدميه، وأصيب مباشرة بشلل تامٍ.
تكشف صور الرَّنين المغناطيسيّ، التي أجراها حينذاك، أنّ قوّة الانفجار أدّت إلى تضرّر عَصَب عموده الفقري، إضافة إلى كسرٍ في إحدى الفقرات أسفل الظهر. ومن هنا بدأت رحلة المعاناة.
يقول دياب لـ"النهار" إنّه لا يحظى بأيّ متابعة من وزارة الصحة، و"أقصى ما أستطيع الحصول عليه هو حبّة دواء مسكِّنة"، ويضيف: "استحصلتُ على بطاقة معوّق من وزارة الشؤون بعد تقديم التقارير الطبية، إلّا أنّها لا تُغطّي تكلفة الدخول إلى المستشفى".
الواقع المستجدّ لدى دياب دفع باثنَين من أولاده الأربعة القصّر إلى ترك المدرسة، والاتجاه إلى العمل، فيما أحد أبنائه أيضاً من ذوي الاحتياجات الخاصّة، منذ الصِّغر، وهو العاجز عن تأمين تكلفة الدواء الشهريّة بسبب وضعه الصحيّ.
يصف دياب نفسه بـ"الشهيد الحي"، ويقول: "ليس بيَدي حيلة لإغاثة عائلتي، لو كان لدى الدولة ضمير حيّ، لتطلّعت إلى أحوالنا".
ميخائيل صومئيل: 53 عاماً
اضطرّ ميخائيل صومئيل إلى إهمال إصابته في ركبته لبضعة أيام، بسبب الزحمة في مستشفيات بيروت وضيق أحواله الماديّة، ممّا أدّى إلى تفاقم حالته سريعاً، وبات اليوم يتنقّل بصعوبة كبيرة مع الاستعانة بعكّازين.
بعد الانفجار، خسر صومئيل عمله في توزيع المياه والغاز، وبات تأمين قوت العائلة تحدّياً يوميّاً، فهو عاجز عن صعود الأدراج والوصول إلى الزبائن. ويقول لـ"النهار": "كانت يوميّتي 100 دولار، واليوم لا تتعدّى الـ4 دولارات فقط... وعم آكل من لحم كتافي لعيش، وثمّة من يتكفّل بالقسط الدراسيّ لابنتي منذ الانفجار".
حالة صموئيل الصحيّة تستدعي تركيب ركبة اصطناعية جديدة بالكامل ليتمكّن من المشي بشكل طبيعيّ مجدّداً، إلّا أنّ تجربته "السّيئة" مع مَرَافق الدولة ولّدت لديه انطباعاً بأنّ "المواطن مهمل في بلده"، ممّا دفعه إلى عدم التقدّم للاستحصال على بطاقة معوّق. ويُضيف: "لا أريد جميلة الدولة اللبنانية... منذ عامين، كنتُ في مبنى محافظة بيروت، ومنعتُ من استخدام المصعد بسبب عدم حيازتي بطاقة معوّق بالرّغم من أنّ إصابتي واضحة للعيان".
ميرنا علاء الدين: 35 عاماً
على مدى 3 سنوات، شاركت ميرنا علاء الدين قصّتها مراراً عبر منصّات عديدة، ولا تزال عاجزة إلى الآن عن إيصال صوتها إلى المعنيّين، وهي الصّابرة على آلام جمّة في قدمها، يُسبّبها وجود قضيبِ حديد وبراغٍ زُرعت عقب الانفجار، وكان من المفترض إزالة ذلك بعد عام واحد فقط، لئلّا تُولّد آثاراً جانبيّة.
خسرت علاء الدين عملها المجاور للمرفأ جرّاء الكارثة، وخسرت أيضاً حياةً مستقرّةً كانت تأمل في عيشها مع ولدَيها وزوجها، إلّا أنّها اليوم تعجز عن الوقوف لوقت طويل أو صعود الدرج، وغالباً ما تعاني من نوبات ألم قويّة في الطقسَين الحارّ والبارد بسبب الجسم المعدنيّ في داخل قدمها.
تروي علاء الدين لـ"النهار" معاناتها منذ عامَين: "أجريتُ الجراحة الأولى على نفقة وزارة الصحة بعد الانفجار مباشرة، وانقطعت منذ ذلك الحين التغطية الصحيّة. انتقلت من الكرسيّ المتحرّك إلى العكّاز النقّال (walker)، ثمّ إلى عكّازات اليدين، وحتى الكرسي دفعت تكلفة إيجاره آنذاك"، متسائلةً بألم كبير: "أين وزارة الصحة من مضاعفات أوجاعي الدائمة في القدمين والظهر؟".
صرخة هذه السيدة طلباً للمساعدة في تغطية تكلفة عملية إزالة القضيب من رجلها لم تلقَ تجاوباً من قبل، فيما خلف الأبواب الموصدة مسؤولون "أمعنوا في إذلال شعبهم، بعدما تسبّبوا بضرر مباشر لهم جرّاء الانفجار". وتقول لـ"النهار": "أحدٌ لا يذكرني إلّا عند ذكرى الانفجار، وأنا و6 آلاف جريح نعيش كأنّنا موتى، فمن يتكفّل بعلاجنا النفسيّ؟".
ليست الحالة الصحيّة لعلاء الدين وحدها هي ما يستدعي المتابعة، إنّما حالتها النفسيّة أيضاً، فهي في تدهور مستمر، ويعاني قلبها عند سماع صوت طيران قويّ، نتيجة الصدمة التي تعرّضت إليها في الانفجار، وغالباً لا تستطيع تأمين تكلفة دوائها الدائم.
إلى جانب آلامها الدائمة، أدّى التجاهل المستمرّ للمعنيّين في وزارة الصحة لحالتها إلى إصابتها بـ"اليأس"، فقد "وصلتُ إلى الشعور كأنّني أعيش وأنا ميتة، ولا أريد شفقة الرأي العام. لم أكُن أنتظر مساعدة من دولتي سابقاً، حتى أصل إلى مرحلة الترجّي لإزالة قضيب من قدمي؟".
لا إحصاء رسميّاً لهم
انفجار المرفأ الكارثة خلّف إعاقات جديدة لدى عدد كبير من المصابين، إلّا أنّ اللافت، وبعد ثلاث سنوات، أن لا إحصاء رسميّاً لهم؛ فعمل وزارة الشؤون الاجتماعية يقتصر على تسجيل الحالات المتقدّمة للاستحصال على "بطاقة معوّق"، وفقاً للتصنيفات المدرجة لديها، وثمّة من لم يتقدّم للتسجيل أبداً حتى الآن في "برنامج تأمين حقوق المعوّقين" في الوزارة.
الأرقام التقريبيّة التي يذكرها "الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوّقين حركيّاً" لـ"النهار" تُشير إلى وجود نحو 800 شخص من ذوي الاحتياجات الخاصة، مصنّفين بين إعاقات موقّتة ودائمة، ومنهم أشخاص يعانون من إعاقات سابقة قد تفاقمت جرّاء الانفجار، إلّا أنّها إحصائيّة و"غير ملزمة" للوزارة، بحسب ما صرّحت به رئيسة "البرنامج" هيام خوري لـ"النهار".
بعض الإعاقات الموقّتة عولجت مع الوقت، وعاد أصحابها إلى ممارسة حياتهم الطبيعيّة، فيما تطوّرت حالات أخرى فأصبحت إعاقات دائمة بفعل غياب المتابعة الصحيّة، وآخرون توفّوا تباعاً.
قانونيّاً، يحقّ لكلّ شخص تعرّض لإعاقة بفعل الانفجار، وهي "مدرجة ضمن تصنيفات الوزارة"، التقدّم للحصول على "بطاقة معوّق" من وزارة الشؤون، بالرغم من أنّها "ليست مفعّلة في الواقع"، وفق شهادات مصابين.
تتفهّم خوري عدم إقبال الأشخاص المعوّقين على التسجيل في البرنامج، فـ"الحوافز الطبية التي كانت تغطيّها بطاقة المعوّق لم تَعد متاحة اليوم، وهذا الوضع يشمل المعوّقين جميعاً في لبنان، وليس الحالات المصابة جرّاء الانفجار فقط".
منذ كارثة المرفأ إلى اليوم، لم تُقفل مراكز الشؤون أمام أحد، وفق ما تؤكّد خوري، و"نحن جاهزون لاستقبال أيّ شخص إصابتُه مدرجة ضمن التصنيفات، ونبحث عن الوسائل المتاحة لخدمتهم"، مشدّدةً على أنّ "التغطية الصحيّة مناطة بوزارة الصحة وليس بوزارة الشؤون، خصوصاً تأمين المستلزمات الطبيّة والجراحيّة".
أمّا السؤال الموجّه إلى وزارة الصحة العامة من "النهار" حول هذه القضية فلم يلقَ جواباً، لتعذُّر التواصل مع الجهة المعنيّة.
دَور الجمعيات الأهلية
من جهتها، تقول رئيسة "اتحاد الأشخاص المعوّقين حركيّاً" سيلفانا اللقيس لـ"النهار" إننا "نتواصل اليوم مع 70 حالة نشطة تقريباً، فيما حالات أخرى في الظلّ لم نعلم بها حتى الآن، والوضع سيّئ جدّاً".
وتضيف: "المشهد المأسوي يتمثّل في غياب التغطية الصحيّة للمعوّقين، فالإصابة لم تقتلهم، لكنّ حرمانهم من استكمال علاجهم وتأهيلهم هو القاتل، وفقدنا 4 أشخاص العام الماضي بالرغم من أنّ إصابتهم لم تكُن خطرة، إلّا أنّهم توفّوا بسبب عدم إمكانيّة الوصول إلى العلاج".
وتؤكّد اللقيس التواصل المستمرّ مع وزارة الصحة لمتابعة الملف، في حين أنّ "الوزير فراس الأبيض كان واضحاً بأنّه ليس لدينا إمكانيّات لإعفاء المصابين من دفع السّلفة قبيل الدخول إلى المستشفى، أو فرق فاتورة الوزارة أيضاً".
وأمام هذا الواقع، ينتظر أحد المصابين مِمّن أصيب في رأسه وبطنه وقدمَيه، وخضع لعمليات عديدة على مدى 3 سنوات، موافقة وزارة الصحة على ملفّه لإجراء عملية طارئة له، فيما لا جواب حتى السّاعة، بالرغم من أن حياته عرضة للخطر مع كلّ تأخير.
معاناة الأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصّة تقابلها اللقيس بمطالبة الدولة بـ"حصولهم على تعويض لائق يؤمّن لهم حياة كريمة للعيش مثلما كانت الحال قبل الانفجار، فهناك تحدّيات وعوائق لتأمين عمل جديد، إضافة إلى دعم عائلات المتوفّين جراء الإصابات للعيش بكرامة"، مشدّدة على ضرورة "لحظ المعايير الدامجة للأرصفة والمدينة خلال عملية إعادة الإعمار".