عندما تمتزج رائحة البرغل والحليب يكون عبق التاريخ البعلبكيّ الأصيل بأبسط ما عليه من سِمات متمثّلاً بـ"الكِشْك البعلبكيّ"، الذي يرتبط بالبيئة ويمثّلها، ويحضر على موائدها اليوميّة، بل يعدّ من أبرز سماتها التاريخية جيلاً بعد جيلٍ، من دون أن تُفلح المُعاصَرة في إبعاده، وهو الذي عزّز وجوده في بيئته ووطنه، بل في العالم.
ليست مكوّنات الكشك غير الحليب ومشتقاته كاللبن واللبنة، إلى جانب البرغل والملح، وإن اختلفت طُرق تحضيره، إذ لكلّ بلدة طريقتها المفضّلة والمميّزة. لكن "كِشْك بَعْلِبك" يبقى ذا مذاقٍ خاصٍّ يفتخر به أهل المدينة ومنطقتها، من دون أن يفرّقوا بين كونه من الأكلات الشعبيّة أو أكلات الذوّاقة، ولذلك يقدّمونه كأثمن الهدايا للأحباب من خارج المنطقة.
تمرّ رحلة تصنيع الكشك على مدى عشرة أيام في أقلّ تقدير، وأبرز محطّاتها البّل والكَسر والطحّن؛ وهي رحلة تتطلّب معرفةً وخبرةً، إذ يُمكن لخطأ بسيط، أو سوء تقدير لوقت جهوزيّته أن يفسده ويجعل طعمه مرّاً. من هنا، ربط "البعلبكيّة" (أهل بعلبك) قديماً مهارة سيّدة المنزل "الشاطرة" بمدى مهارتها في صنع الكِشْك، كناية عن أهمّيته، ممّا يعكس مدى حبّ هذه الوجبة ومركزيّتها في حياة أهل المنطقة.
وحول كيفيّة تحضير الكِشْك،فإنّه "كلّما كان اللبن الرائب حامضاً أعطى نكهة أطيب للكِشْك"، تقول المدرّبة في الصناعات الغذائية السيّدة ريما برقاشي من دير الأحمر، وهي تشرح عملية التحضير التي يتمّ فيها خلط البرغل البلدي (قمح مسلوق مجفّف) مع اللبن الرائب. وتُضيف أن "الملح يجب أن يمتزج بالخليط في ما يُسمّى "البّل" (في هذه المرحلة يتجمّع الصّغار والكبار، ويحمل كلٌّ منهم طبقاً، بانتظار أن تُقدّم لهم كمّية من المزيج تسمّى بَلِيْلَة). بعد ذلك، يتمّ طحن البرغل المبلول بآلة خاصّة، وتُسمّى العمليّة حينها "الكَسر". ثم بعد أن تتشرّب حبوب البرغل كلّ السوائل، يتمّ عجنها باللبن الرائب أو اللبنة البلديَّة فتصبح كالعجينة.
وبعد 8 أيام تقريباً، يتمّ دعك البرغل المعجون باللبن الرائب أو اللبنة، مع الضغط على الخليط باليد لمنع الهواء من البقاء بين حبّات البرغل، صباحاً ومساءً، فضلاً عن تعديل الملح، ثمّ "يُفرش" على سطح المنزل، على قطع قماش بيضاء مخصّصة للكشك فقط، تسمّى الواحدة منها "شادِر الكِشْك"، على شكل "كمشات" صغيرة في الشمس، حتى تجف، قبل أن تؤخذ إلى المطحنة للطحن والنَّخل، لينتهي جاهزاً للتخزين ضمن أوعية حفظ زجاجيّة محكمة الإقفال، أو الاستخدام المباشر".
وقد يؤخذ من الكِشْك الأخضر لمن يرغب، فتوضع النّكهات حسب الرغبة مثل الجوز والحرّ، ويُغمر بالزيت في عبوات زجاجيّة في الثلاجة.
وتلفت السيدة برقاشي، التي شاركت في العديد من الفعاليات الثقافية، وحصلت على لقب سفيرة المونة اللبنانية على مستوى الدول العربيّة، إلى أن الكِشْك حاضرٌ في جميع المهرجانات التراثية، لأنّه "يُعبّر عن جزء من حضارتنا وتراثنا، كما يُساهم في إبراز هُويّة وأصالة بعلبك - الهرمل، والإقبال على تحضيره وشرائه لا يتغيّر أبداً، بالرّغم من غلاء الموادّ الأساسيّة، وارتفاع تكلفة إعداده، مع الظروف الاقتصادية الحالية، حيث بلغت تكلفة الكيلوغرام الواحد من الكشك البلدي 600 ألف ليرة لبنانية، منها 400 ألف ليرة لبنانية لسطل اللبن أو الحليب (كيلو ونصف الكيلو)، و100 ألف ليرة لبنانية لكيلو البرغل، والباقي أجرة الطحن، مع ملاحظة أن كلّ كيلوغرام من البرغل يحتاج إلى سطل لبن رائب أو حليب.
أمّا السيدة السبعينيّة البعلبكيّة "شهيرة الشّلّ"، فلديها طريقة أخرى في صنع الكِشْك، تقوم على تجميع الحليب غير المغليّ خارج الثلاجة حتى يُصبح على درجة حموضة معيّنة (تحمّض الحليب)، فتخلطه مع البرغل، كما فعلت والدتها وجدّتها، وتقوم بفركه بالحليب واللبن الرائب لتستمرّ بعد ذلك، تماماً كخطوات السيدة برقاشي.
وأوضحت الشّلّ بأن الكِشْك كان يُصنع في الماضي بطريقة مختلفة، ثمّ تغيّرت بمرور الوقت، وتبدّدت صعوبة تحضيره مع وجود آلات خاصّة كلّفت بمهمة الطحن في بضع دقائق، ولم يعد تصنيعه يتطلّب أكثر من النقع والمراقبة لبضعة أيّام، بل أُدخلت عليها عدّة تعديلات، أبرزها "البّل" باللبن الرائب، بينما قديماً لم يكن يُبّل باللبن إطلاقاً، ويُجفّف اليوم تحت الشمس لأيّام ثمّ يُطحن.
ولفتت إلى روعة طقوس اليوم الأخير من الكِشْك، أي "الطحن"، حين يُصبح الأمر أشبه بالتحضير لأيّ مناسبة جميلة، حين يتمّ توزيع قطع من الكِشْك الأخضر على الجيران والعائلة لتذوّق الطعم واختبار حموضة وملوحة الكِشْك.
بعد ذلك، تتداعى النساء والجيران والأقارب للمساعدة والتعاون في المساء في تقطيع الكِشْك، ثمّ فركه وطحنه يدوياً في اليوم الثاني على وقع قصص وأهازيج جميلة.
على الرّغم من الإطار العام للإعداد، فإنّه يظلّ متنوّعاً ومتميّزاً، ولكلّ منه خصائصه، فلطالما احتوى سهل بعلبك على محصول القمح البلدي الذي شكّل الدعامة الأساسية للوجبة، وضمّت الحظائر ماشية "الماعز والأغنام والأبقار"، التي ترعى على الحشائش الطبيعية!
من هنا، أصبح الكِشْك تراثاً بكلّ تفاصيله، بل منجماً للفوائد المعنوية والصحيّة والماديّة معاً، والحفاظ عليه كتراث واجب للاستفادة من فوائده الكثيرة.
هذه الوجبة الصحيّة ليست مجرّد لذّة دافئة للإنسان في الشتاء، ومشروباً بارداً في أيّام الصيف الحارّة، فإنّ حموضته الأمينيّة، والكربوهيدرات، والبروتينات، والفيتامينات مثل فيتامين "ب"، والكالسيوم، الذي يحتويه، تجعله غذاءً منتقًى وسهل الهضم.
ولمن يرغب في تحضير وجبة الكِشْك مع اللحم المفروم نقدّم له طريقة سهلة وسريعة
المقادير:
4 أكواب من الكِشْك
نصف كيلو من اللحم المفروم، أو 200 غرام من القورما (اللحم المقلي مع الدهون)
رشّة ملح
زيت نباتيّ أو سمن
بصلتان
طريقة التحضير:
تفرم البصلتان فرماً ناعماً في طنجرة، ويُضاف إليهما اللحم المفروم بعد نضوجهما.
يُملّح اللحم، ويُحرّك جيّداً، ويُترك على النار حتى ينضج.
يضاف الكِشْك إلى اللحم، ثمّ يُضاف ما يقارب الـ8 أكواب من الماء.
يُترك المزيج على النار حتى يغلي، ويُحرّك جيّداً، ويُقدّم ساخناً إلى جانب الخبز المحمّص.