النهار

"طلّع الدولار، نزل، انفجر، حلّق..."، ارحمونا صحّتنا النفسية في خطر
ايسامار لطيف
المصدر: "النهار"
"طلّع الدولار، نزل، انفجر، حلّق..."، ارحمونا صحّتنا النفسية في خطر
دولارات. (من أرشيف "النهار").
A+   A-
"ارتفاع جنوني، أرقام قياسية، طلّع، نزل، انفجر، حلّق..."، عناوين رافقت أخبار الارتفاع الهستيري في سعر صرف الدولار في الأيام الماضية، قبل أن يعود اللجم بـ"سحر ساحر" مع خروج تعميمي مصرف لبنان الى العلن. ومن الارتفاع الجنونيّ للدولار، ورفع الدعم عن الأدوية، و"جنون" أسعار المحروقات، وصولاً إلى أسعار السوبرماركت، أصبح اللبنانيّ رهن عدّاد رقميّ يرتفع مع مرور الثواني، في ظلّ غياب الرقابة وخروج الأوضاع عن السيطرة. نعم، نحن لسنا بخير، ولسنا سعداء بتغطية هذا النوع من الأخبار التي تصلكم طيلة النهار على شكل إشعارات، تباعاً إلى هواتفكم وتُحبطكم أكثر في حين ربما كنتم تحاولون التغاضي.
لا يناقش هذا المقال بالتأكيد دور الاعلام في الأزمة، وهو براء من تبخّر الاحتياطي والقرارات المتخدة بالسياسات الفاسدة، لكننا نثير فكرة للنقاش حول كم الأخبار السلبية الذي يحتّم الواجب المهني تغطيتها وبثها على مدار الساعة، وهي تتمتع بميزة التفاعل الأسرع مع إشعارات الهاتف وتناقلها عبر منصات مواقع التواصل الاجتماعي. لا بل أن تلك المتعلقة منها بارتفاع سعر صرف الدولار بين ساعة وأخرى يستفيد منها ويضحك لها المتلاعبون الحمقى المجرمون. 
وحين سمعنا عدداً من الأشخاص ينظرون الى وسائل الاعلام كورقة نعوة، قررنا فتح النقاش في حيّز علم النفس والاستماع الى أراء بعض المواطنين. 

"ما تذكرونا كلّ شويّ بجهنّم، ما رح نزعل منكن"... هكذا اختارت فاديا شحادة أنّ تعبّر عن شعورها حيال الأخبار السريعة "المأسوية" التي تصلها من المؤسّسات الإعلاميّة. فاديا التي عاشت الحرب الأهلية، تروي لـ"النهار" صعوبة الوصول إلى جهنّم المترافقة مع جهاز صغير تضوي شاشته كلّ ٥ دقائق نعياً لبلد عُرف يوماً بأنّه سويسرا الشرق. "أصبحنا صومال الشرق، ونحن على دراية بذلك، فلا داعي بأن تذكّرونا كلّ ربع ساعة بهذا الأمر، لقد تعبنا من الأخبار السيّئة، وأصبحنا نبحث عن الخبر المفرح حتّى ولو كان زواج قطّة في الشارع".

صدّق أو لا تصدّق، فأيّام الحرب وويلاتها كانت أهون على فاديا وغيرها من يومنا هذا... والسبب صادمٌ. "أيّام القصف والمدفعية، عندما كان البلد مقسوماً إلى شرقية وغربية، كنّا نجلس في الملاجئ نلعب الورق ونشرب القهوة والنرجيلة وكأنّ الدنيا بألف خير، وهذا ليس لأنّنا لا نكترث لما يحصل، ولكن وقتها لم نكن نمتلك الهواتف التي يلقّبونها بالذكيّة، كنا نعلم أنّ الموت قد يكون وشيكاً في أيّ لحظة، ولكنّنا لم نجلس على أعصابنا ننتظره كما اليوم".

"الحالة تعبانة ومش ناقصين"، بهذه الكلمات يُناشد جوزيف صهيون المؤسّسات الإعلاميّة التوقّف عن إرسال الإشعارات الإخباريّة له، قائلاً: "وانشالله بيوصل الدولار للـ100 ألف، ما معي لبناني ولا فريش، شو بيفيدني أعرف؟!". وفي تعليقه، سخرية سوداء إذ أن إلغاء الاشعارات من التطبيق في يده، ولكن ثمة شيئاً بالتأكيد يمنعه من الامتناع عن البقاء على تماس مع الخبر السريع. 
 

ووسط هذا الكمّ الهائل من الأخبار "الجهنميّة" التي تصل تباعاً إلى المواطنين وحال الذعر التي تولدها لالتصاقها بالواقع، لا بدّ من التوقّف للحظة والتفكير في مخاطر هذا الدفق على صحة المتلقّي النفسية وتبعاتها اللاحقة، فإلى متى يستطيع اللبنانيّ الصمود في حين أنّه كلّ دقيقة يتلقّى خبر فاجعة جديدة؟

تشرح الاختصاصيّة النفسيّة رنا سنّو لـ"النهار" مخاطر الإشعارات الإخباريّة المتتالية التي يتلقّاها المواطنون وتلك التي تصلهم بكثافة عبر الهواتف ومواقع التواصل الاجتماعي، محذّرة من أنّها قد تكون "أكثر خطورة عليهم من واقعهم الحقيقيّ".
 
"الخبر اليوم بمثابة رصاصة تدخل إلى عقول الجمهور وتستقرّ هناك"، هكذا تصّف الاختصاصيّة أثر الأخبار السيئة التراكمي، "وهي تختلف من شخص إلى آخر، حيث يكون وقع الخبر طفيفاً بالنسبة إلى البعض، بينما يكون كارثياً بالنسبة إلى آخرين".

وتقول سنّو: "مجتمعنا يتكوّن من نماذج مختلفة، وهذه النماذج لديها خلفيات عدّة إيجابيّة أو سلبيّة، ولكن في الحالتين، لا يمكننا أخذ هذه الاختلافات على محمل المزح، فمثلاً الشخص المتسرّع والعصبيّ، الذي يُعاني من صعوبة في تأمين الحليب لطفله الرضيع، أو يعجز عن إدخال أمّه المصابة بالسرطان إلى المستشفى، فهو مستعدٌ للقيام بأيّ عمل إجراميّ مقابل تأمين حقوقه هذه، وهنا تحديداً يأتي دور وسائل الإعلام التي وأثناء القيام بدورها المعتاد في نقل الخبر وتوثيقه، تُذكّر المواطن المتعب بأنّ حياته لم تعد تساوي شيئاً، وأنّنا مقبلون على فترة أكثر صعوبة وترفع في أحيان كثيرة سقف التهويلات، وهنا يقف البعض مصدوماً فيما البعض الآخر يقرّر المجازفة وركوب الموجة العامة في سبيل تأمين احتياجاته، فترتفع نسبة الجرائم أو الانتحار أو درجات الاكتئاب".
 
وتجد الاختصاصية بأنّ "النمط المعتمد من قبل بعض المؤسّسات الإعلاميّة مؤخراً لا يُبشّر بالخير، ولا يأخذ بعين الاعتبار صحّة القارئ أو المشاهد النفسيّة، فتدخل المبالغة في إرسال الأخبار السيّئة مع عناوين مضخمة بهدف رفع نسب المشاهدة على حساب صحّة الناس وأعصابهم، فبعض المواقع الإخباريّة المرخّصة وغير المرخّصة تستخدم أسلوب الصحافة الصفراء لتُجبر المواطن على نقر الخبر أو تناقله، وهذا بحدّ ذاته انتهاكاً للصحّة النفسيّة وخطراً اجتماعياً لا بدّ من التوعية حوله".
 
بالنسبة إلى سنّو "لا بدّ من عرض برامج ترفيهية وتثقيفيّة للتخفيف من الضغوط التي يعيشها الناس، أقلّه ريثما تهدأ الأوضاع كي لا ندخل في دوّامة الحوادث المأسويّة التي نحن في غنى عنها حاليّاً"، لافتةً إلى "وجوب إعطاء الناس فرصة من الأخبار الكارثية وتسليط الضوء أكثر على الأخبار المشجّعة والمفرحة ذات القيمة التي من شأنها أن ترفع من معنوياتهم وتحفّزهم على المثابرة، خصوصاً وأنّ اللبناني في طبيعته يحبّ الحياة ويتأقلم مع الظروف الصعبة. وبالتالي، قد تكون هذه المبادرة جيّدة من السلطة الرابعة تجاه جمهورها، حيث أنّها مسؤولة تماماً عن صحّته النفسيّة التي تتأثّر بسبب أخبارها".
 
بدورها، رأت الاختصاصية ماري أنج نهرا أنّه "من الضروري أن يعرف الإنسان حقيقة ما يحصل من حوله لأن الأمر يساعده على تنظيم وتحديد تحركاته بعيداً من العشوائية، ولكن عندما تختلط الأمور ما بين التغطية وعدم الموضوعية، تصعب قدرة المواطن على التحليل".
 
ويبقى دور الاعلام في إيصال الحقيقة ونقل الصورة الأقرب الى الواقع، والأكيد أن تحقيقاً استقصائياً يكشف هوية المتلاعبين بسعر الصرف والحقائق الدفينة ربطاً بالوقائع السياسية، يبقى أنجع من الاكتفاء بنقل الأخبار السيئة كببغاء وإبلاغها الى الناس الذين يرُاد لهم أن يكونوا المفعول بهم والوقود في السيناريوات الجهنمية التي رسمت وترسم للبنان. 
 
 
 
 

اقرأ في النهار Premium