انضمّت الضحية راجية العاكوم إلى قائمة ضحايا العنف الزوجيّ، بعد أن قضت طعناً ودهساً على يد طليقها، تاركة وراءها أولادها الثلاثة الذين شهدوا جريمةً شنيعة بتفاصيلها المرّة والقاسية.
في عودة سريعة إلى الجرائم السابقة، يبدو واضحاً أن قواسم مشتركة تجمع بينها، أهمّها الانتقام من المرأة بعد الطلاق، والثانية تبرير هذا الجرم بمعاناة الفاعل من اضطرابات وأمراض نفسيّة.
الجريمة المروّعة التي راحت ضحيتها راجية تُعيد إلى الأذهان جريمة منى الحمصي على يد طليقها، حين قتلها بدمٍ باردٍ بـ4 رصاصات، في وسط الشارع. لم يكد ينقضي على الجريمة ساعات حتى بدأت الحجج المعلّبة تتوالى، وأهمّها أنّه يعاني من اضطرابات نفسيّة، في حين أكّدت عائلتها أنّه "بكامل قواه العقلية، وكان يرصد حركة طليقته لمعرفة أوقات مغادرتها منزلها، بعد أن هربت إليهم نتيجة العنف المستمرّ بحقها".
اليوم، يتكرّر المشهد ويتكرّر السيناريو المبتذل، فبعد أن أقدم طليق راجية على قتلها طعناً ودهساً بالسيارة، بدأت تنتشر أخبار عن أنّه يعاني أمراضاً نفسيّة.
ترفض رتينة العاكوم، شقيقة الضحية راجية، هذه الحجة، وتؤكد لـ"النهار" أنه "بكامل قواه العقلية، وأن من يعاني من اضطرابات نفسية لا يهرب ويبحث عن مخرج لفعلته. لقد هرب إلى منزلنا المهجور في البلدة، واختبأ هناك، إلا أن شباب الضيعة عثروا عليه، وسلّموه إلى الدرك. 20 عاماً وشقيقتي تتحمّل منه العذاب والعنف والتهديد بالقتل أو قتل أولادها. بقيت معه طوال السنوات الماضية خوفاً على أولادها، لكنها لم تعد قادرة على التحمّل أكثر، فقرّرت الطلاق. كنّا نقول لها اتركيه إلا أن خوفها من إيذائه لها أو إيذائنا وإيذاء أولادها كان يمنعها من حسم الموضوع".
تبكي رتينة بحرقةٍ شقيقتَها المغدورة، فتخونها الدموع طوال الوقت، فيما الجرح ما يزال طرياً وقاسياً، مردّدة بوجع "الله ياخدلها حقها. ماتت مظلومة. الله لا يسامحو شو عمل فينا وبالولاد". وتطالب "بإنزال أشد العقوبات وإعدامه في مكان الجريمة حتى يكون عبرة لغيره، يللي عملو بشع كتير".
لا شيء يخفّف هول الفاجعة. توفيت راجية بطريقة شنيعة ومؤذية. تشوّهت معالمها ولم يعرفها أولادها، فقالوا "هذه ليست والدتنا التي نعرفها". لقد شاهدوا والدتهم بأبشع صورة. هم في صدمة تامّة.
بقيت راجية تعضّ على جرحها سنين قبل أن تنتفض على حياتها. لم يكن سهلاً عليها كما تروي شقيقتها أن تنفصل بهذه السهولة. "كان يهددها دائماً بقتل أولادها وقتلنا. كان يضربها ويعنّف أولادها. كان تخاف أن يصيبنا مكروه بسببها، لكنها لم تعد قادرة على التحمّل أكثر. تطلّقت منذ 3 أشهر في المحكمة، ومنذ 3 أيام تمّ تثبيت طلاقها. لم يترك لها شيئاً. باع منزلاً وأراضي من دون أن تعرف أين ذهب بالأموال. كان يسرقها، ولكنّها تعبت كثيراً، فقرّرت الطلاق لترتاح من هذا الكابوس".
راجية واحدة من عشرات النساء الضحايا اللواتي دفعن حياتهنّ ثمناً لهذا العنف، إذ بلغت الجرائم التي رصدتها "كفى" عام 2022 نحو 18 جريمة قتل (عنف زوجي)، في حين يواصل عداد الضحايا ارتفاعه منذ عام 2023 بجرائم جديدة بحق النساء، لاسيما المطلقات منهن.
ترى الناشطة النسوية، والمديرة التنفيذية لـ "المختبر النسوي – نقطة"، عليا عواضة، في حديثها لـ"النهار" أن "موضوع الإفلات من العقاب في جرائم قتل النساء يتّخذ منحى التبرير منذ إلغاء جريمة الشرف في لبنان. ونحن نشهد على محاولة اللجوء إلى أساليب أخرى لتبرير هذه الجرائم. والأهم تخفيف العقوبة على القاتل الذي يكون في أغلب الأحيان من أفراد عائلتها (زوجها - طليقها - شقيقها - والدها).
تلاحظ عواضة أنه "في السنوات الأخيرة باتوا يلجأون إلى سببين أساسيّين للتخفيف من العقوبة، أوّلهما نوبة الغضب، لأن إحدى موادّ قانون العقوبات تنصّ على تبرير جريمة القتل في حال القيام بها خلال نوبة غضب، وبالتالي يتمّ تخفيف الحكم. أما السبب الثاني فيتمثل بالاضطرابات النفسية التي يكثر اللجوء إليها في الآونة الأخيرة. ونتذكّر جيّداً جريمة "أنصار" التي راح ضحيتها الوالدة مع بناتها الثلاث، حيث قدّم وكلاء القاتل طلباً لفحصه نفسيّاً، وجاء تقرير الطبيب النفسي أنه لا يوجد أيّ مؤشّر إلى وجود اضطرابات نفسيّة، قبل أن تُستكمل المحاكمة".
تتقاسم المحامية فاطمة الحاج من منظمة "كفى" المخاوف والنظرة نفسها مع الناشطة النسوية عواضة، فبرأيها "نحن نعرف أن المعتدي الذي يكون سلوكه عنيفاً يسعى المجتمع إلى تبريره تحت ذرائع مختلفة منها "ساعة غضب" أو "مريض نفسي". والسبب أننا في مجتمع ذكوري يُبرّر للرجال أفعالهم التأديبية. وللحفاظ على سلطة الرجل وأفعاله التأديبية يلجأ البعض إلى اعتباره "مريضاً نفسياً" لتبرير سلوكيّاته العنفيّة. فعندما يلجأ الرجل إلى تعنيف زوجته نُشرّع له بالقول "حقّ له"، ولكن عندما يتخطّى الخطوط الحمر، ويتسبّب العنف بقلتها أو أذيّتها جسديّاً بشكل فاضح نُطلق عليه عندها إسقاطات اجتماعيّة، ونبرّر وفق مبدأ أن الرجل الطبيعيّ لا يتصرّف بهذا الشكل، وبالتالي هو مريض نفسياً".
وتستنج أنه "طالما لم يحاسب الرجل منذ أول سلوك عنفيّ اقترفه، بالرغم من صدور قانون حماية النساء وأفراد الأسرة، فإننا نبقى في وضع التبرير له تحت ذريعة أنه مريض نفسي".
وتشدّد على أنه ما دام "هناك قانون متراخٍ وعدالة لا تفرض أشد العقوبات بحق المجرمين، فسيبقى المعنِّف لا يخضع لمحاكمة سريعة، ولا يُحاسب على فعلته"، داعية إلى أن "تبدأ العدالة من وقت وقوع الجريمة من خلال التسريع في المحاكمة وعدم اللجوء إلى المماطلة للهروب من العقاب".
وفي استعادة لحالات القتل الأخيرة، نجد أن القتيلات هنّ مطلّقات، والقتلة هم أزواجهنّ السابقون، فتوضح علياء عواضة بأن "جرائم القتل بعد الطلاق تكشف عقلية بعض الذكور الذين يحاولون السيطرة على حيوات النساء، وكلّ ما يتعلّق بهنّ. وعليه، عندما تتّخذ السيدة قرار الطلاق والخروج من دائرة العنف أو الدائرة غير المريحة التي كانت تعيش فيها، وتحاول البحث عن استقلاليّتها وبناء حياتها من جديد، لا يتقبّل الرجل الموضوع، ويحاول استرجاع سلطته حتى لو كلّفه الأمر حياة طليقته".
وفي العودة إلى الأحكام القضائيّة السّابقة بحق الضحايا النساء المعنّفات، نستذكر جيّداً قضية منال عاصي التي تكشف وفق الحاج عن "أنه عند الإدعاء، ونتيجة ضغوط مورست على العائلة تحت حجج واهية بأنها كانت تخوف زوجها من دون أي دليل، أسقطت عائلتها الحق الشخصي؛ وفي أول محاكمة أصدرت محكمة الجنايات حكماً مخفّفاً، وحاكمت منال على سلوكيّاتها عوض محاسبة الجاني. وبفضل تحرّكات وضغط الجمعيّات النسويّة، وبما أنّها قضية عامة، وبعد متابعة مطوّلة صدر الحكم بالسجن لمدة 15 عاماً".
للأسف، تحوّل قتل النساء إلى ظاهرة عامة، والأرقام مهولة. فمنذ شهر كانون الأول وحتى شهر نيسان، سُجّلت 8 جرائم بحق النساء. فهل تبقى هذه الجرائم مباحة، وتبقى دماء النساء مسفوكة تحت عقليّة ذكوريّة مسيطرة وحجج معلّبة للتفلّت من العقاب اللازم؟ وكم من ضحيّة ستسقط بعد قبل أن يُحاكم الجاني على فعلته بعقوبة شديدة تكون عبرة لغيره؟