يواجه المجتمع اللبناني عدّة مشاكل، قد لا تكون المثلية آخرها. ككرة الثلج، اتخذ الموضوع حجماً وطنياً، السكوت عنه بات مضراّ، بعدما بات مادة للتجاذب والنقاش الشعبي، التي قد تتطوّر إلى حدود تخطّي الخطوط الحمر. من هنا، تكبر المسؤوليات على المعنيين لسحب الموضوع من الشارع إلى المؤسسات الرسمية المعنية.
حادث نزول مجموعة من "جنود الربّ" إلى أحد المطاعم في الجمّيزة – مار مخايل المخصص للقاء المثليين، أحدث نقمة لدى من يدافعون عن الحرية الفردية، ولاقى استحساناً لدى من يعتبرون الحرية الفردية نظاماً غير منفصل عن القيم والأخلاق والأصول التي كوّنت العائلة اللبنانية، وتربّى عليها المجتمع اللبناني.
والأخطر أننا لم نلمس خططاً وخارطة طريق لمواجهة "الفتح" الغربي الذي يضغط لإدخال المثلية في المناهج التربوية، ويتسلّل عبر الجمعيات غير الحكومية وبعض المنظمات وغيرها للترويج لمثلية تحت مسمّى حريّة الفرد، بدءاً من المدارس إلى المؤسسات والجامعات.
من هنا، لا بدّ من مجموعة أسئلة، وإجابات، تحدّد الأطر والمفاهيم التي يجب أن يسلكها هذا الملفّ.
أوّلاً، لماذا يعتمد من يروّج للمثلية أسلوب، "غسل الدماغ"، ولفئة عمرية محدّدة، هي الأطفال؟ من هي المنظمات التي تروّج لها وبماذا تستفيد؟
ثانياً، لماذا هناك من يعمل على إشاعة أجواء من التضليل لدى الرأي العام وفي هذا التوقيت؟ إذ إنّ ما يجري خلط واضح للمفاهيم بطريقة مقصودة أو غير مقصودة لدى البعض. فالقبول بالمثلية والسماح بتعميمها وترويجها شيء، وعدم تجريم المثلية شيء آخر. لا أحد على هذه الأرض يملك الحقّ بتعيير أو إدانة شخص آخر على أفعاله وأخطائه مهما كبرت وتعاظمت، فـ"من منكم بلا جريمة فليرجمهم بحجر". لكن في المقابل، لا أحد يملك حقّ فرض تجارب مجتمع آخر على مجتمعنا اللبناني. لكنّ المشكلة اليوم، ليست في وجود المثليين، بل في مَن يريد استغلال توقيت الهجمة الخارجية على لبنان بشأن المثلية، وما يجري داخل البرلمان على صعيد تطوير القانون ونزع صفة "الجرم" عن المثليين، من أجل تكريس ثقافة جديدة داخل المجتمع اللبناني هي ثقافة المثلية، ومنح معتنقيها الحرية المطلقة وكامل الحقوق، التي تخوّلهم التبنّي إلى إنشاء عائلة، وربما إلى إقامة طقوس دينية خاصّة بهم، - جميعنا رأينا انفصال إحدى الكنائس في ألمانيا عن روما- إلى إقامة التظاهرات والتجمّعات والانخراط في الشأن السياسيّ والفنّي. فهل يستطيع لبنان على سبيل المثال أن ينتخب رجلاً كـ"ملكة" لجمال لبنان؟
ثالثاً، يلجأ البعض، وللأسف إلى التلطّي وراء تصريح لقداسة البابا فرنسيس عن المثلية، للدفاع عن حرّية المثليين. فيما لا يدرك هذا البعض أنّ كلامه ترويج للمثلية بطريقة غير مباشرة.
1- طلب البابا فرنسيس عدم اعتبار المثلية جريمة، لكنّه أكّد وشدّد في الوقت نفسه على أنّها خطيئة. وعدم اعتبارها جريمة لا يعني قبول البابا فرنسيس بالمثلية أبداً. فهو دعا الرهبان والآباء والكهنة إلى احتضان هؤلاء المثليين ومساعدتهم على التوبة.
2- هل كلام قداسة البابا مُنزل أو مقدّس؟ طبعا لا. لسبب بسيط وواضح، لأنّ القانون الكنسيّ يحدّد ماهيّة الخطأ من الصحّ. وأيّ مفاهيم تضعها مجموعة من الكهنة والرهبان الذين يؤلّفون المجمع الكنسيّ، وهو بدوره يحدّد القواعد والضوابط التي تُبنى عليها كلّ قضية، واستناداً إلى الإنجيل بالدرجة الأولى. والقانون الكنسيّ هو الذي يقول ما هو الصحّ وما هو الخطأ. وأيّ تغيير في هذا الواقع يخضع لمناقشات ودراسات ممحّصة داخل المجمع الكنسيّ. من هنا، لا يُعتبر كلّ تصريح أو رسالة أو عظة تصدر عن البابا كأنّها تمثّل الكنيسة ومبادءها، بل قد تكون تعبّر عن رأي البابا الشخصيّ.
وفي ما خصّ المثلية، فالآيات في الكتاب المقدس كثيرة، أبرزها (رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس 6: 9، 10) "أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الظَّالِمِينَ لاَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ اللهِ؟ لاَ تَضِلُّوا: لاَ زُنَاةٌ وَلاَ عَبَدَةُ أَوْثَانٍ وَلاَ فَاسِقُونَ وَلاَ مَأْبُونُونَ وَلاَ مُضَاجِعُو ذُكُورٍ، وَلاَ سَارِقُونَ وَلاَ طَمَّاعُونَ وَلاَ سِكِّيرُونَ وَلاَ شَتَّامُونَ وَلاَ خَاطِفُونَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ اللهِ"...
وبالتالي، فإنّ أيّ تصريح يصدر عن قداسة البابا فرنسيس يناقض هذا الكلام، هو تناقض مع الكتاب المقدّس وليس مع الكنيسة فقط.
3- لا بدّ من التذكير أنّ البابا بينيدكتوس ألّف مجموعة من الكتب سمّاها "يسوع الناصريّ"، وفي نهاية كلّ كتاب كان يطلب أيّ نقد بنّاء لأنّ ما كتبه هو تعبير عن رأي شخصيّ وليس عن رأي الكنيسة الأمّ.
رابعاً، هناك تضليل متعمّد على مستوى القوانين وما يقوم به بعض النواب لجهة تجريم المثلية أم لا. جلّ ما يوافق عليه النواب اليوم هو عدم اعتبار المثلية جريمة، وهذا أمر طبيعيّ، على عكس ما يمليه بعض الجمعيات NGO أو دول الغرب بهدف الترويج للمثلية في المناهج التربوية أو في المؤسسات.
وبالتالي، أليس ما يقوم به النواب هو أمر معمول به أصلاً في لبنان؟ فعلى سبيل المثال، مَن مِن الأشخاص ليس لديه معرفة أو قد يصادف شخصاً مثلياً في عمله، أو مسكنه أو أيّ مكان، فهل منّا من حمل مرّة هاتفه ليتّصل ويُخبر عن هذا الشخص لرميه ودفنه في السجن مثلاً؟ كم مرّة صادفتم مثلياً على الطريق أو في أيّ مكان عامّ، هل رأيتم مرّة دورية تُمسك به وتجرّه وترميه في صندوق سيارة لأنّه يشكّل خطراً على الموجودين؟
هذا يعني بكلّ بساطة، أنّ ما نعيشه اليوم في حياتنا اليومية، يحاول النواب ترجمته في النصوص القانونية، ولا عيب في ذلك. (هدف منع التجريم منع إلقاء المثليين في السجون وإخضاعهم لفحوصات جنسية وهي ممارسات تتم أحياناً في المخافر).
خامساً، تُشنّ حملة كبيرة على مجموعة شبّان يسمّون أنفسهم "جنود الربّ"، بسبب طردهم عدد من المثليين من أحد مطاعم الجمّيزة – مار مخايل، بحجّة أنّهم يدنّسون أرض الربّ يسوع، وهذه أرض مقدّسة، وهم كما يقولون يطبّقون تعاليم يسوع.
أوّلاً، مع كل الرفض لما قام به "جنود الربّ"، أين الدولة التي وحدها تملك الحقّ بتحديد المسموح من الممنوع وليس أحد آخر؟
ثانياً، لكن أيضاً، هل بات الشغل الشاغل اليوم مهاجمة شابين من "جنود الربّ"، وإهمال الموضوع الأساس والأخطر؟
ما يجري حالياً، حفلة فوضى وجنون وتضييع للمفاهيم وللمنهجية في التفكير والمعالجة وحتّى الحريّة. من هنا، المطلوب، تحديد المسؤوليات والمرجعيات. أوّلاً، الكنيسة والمراجع الإسلامية للتداعي ومناقشة ودرس وإصدار توصيات في شأن ظاهرة المثلية اليوم، وتمييز الجريمة من الخطيئة. ثانياً، الدولة بكلّ أجهزتها لمعالجة هذه الظاهرة التي تطال أمن المجتمع اللبنانيّ. فظاهرة المثلية اليوم لا تقلّ خطراً عن ظواهر أخرى تدمّر المجتمع.