أمل رشيد ورقيّة طيّارة
نعم، تلك كانت الجملة الجلل "خلّوه بالبراد… ما في محلّات. بدكن وقت تنلاقيلكن قبر".
وقعت هذه الكلمات كالصاعقة على مسمع منار، عندما طلبت الإذن بالحصول على مدفن لوالدها الراقد في براد المستشفى، "بس الميت بالأرض، كيف بدنا ننطر وقت؟".
لم ترضَ ابنة عبد السلام أن تترك أباها في البراد، فنقلته إلى المنزل، لتبدأ رحلة البحث عن قبر يضمّ هذا الفقيد. ولأنّ قبر والديه قد تخطّى العدد المسموح به، بقي المتوفّى متروكاً لمصيره.
"كنّا عم نلوب على مقبرة". بأنين وحسرة تصف تضارب مشاعر عائلتها بين ألم الفقد من جهة، ومشقّة الحصول على قبر للأب من جهة أخرى.
أقفاص مدافن الأغنياء في باب الرمل.
وبعد أن أتمَّ ليلة في المنزل وسط حال من الضياع، اهتدت العائلة إلى رجل يملك قبراً فارغاً بشاهد وهميّ. وبعد المفاوضات، تمكّن الأبناء من شراء القبر بمبلغ 2000 دولار أميركيّ، وحصلوا بعدها على إذن الدفن في مدافن باب الرمل.
"الله سعفنا ولقينا محلّ، بس نحنا شو حيصير فينا؟". تُعرب الابنة بكلماتها هذه عن خوفها من مصيرهم المجهول بعد الموت.
ليست الوحيدة ولن تكون؛ فحال منار كحال أغلبية العائلات الطرابلسية الّتي تُدفَن في مقبرتي باب الرمل والتبانة، وهما أكبر وأقدم مقابر المدينة، وتشرف عليهما دائرة الأوقاف في طرابلس. ولكنّهما وصلتا إلى مرحلة الإشباع. واستفحلت الأزمة هذه السنة، فبات من الصعب أن يجد الناس مساحات فارغة لدفن موتاهم إلا باستثناءات، هذا عدا عن المشكلات العديدة المتراكمة في داخل هذه المقابر، ممّا أنتج أزمة مدافن يتضرّر فقراء طرابلس منها بالدرجة الأولى، كأنّ لا مكان لهم فوق الأرض ولا تحتها.
مشكلات مزمنة
اليوم، يصعب على الزائر التنقّل داخل المقابر نظراً إلى الفوضى المطبقة عليها، وهو المشهد الأوليّ الذي يلفت انتباهك في سائر هذه المجالات. يجب عليك توخّي الحذر أثناء عبورك تجنّباً لتعثّرك بأحد القبور العشوائيّة، أو أن تطلّ عليك أفعى برأسها بين أكوام الأعشاب اليابسة والنباتات الشائكة التي تلفّ مسارك، عداك عن التجاوزات المتتابعة على طول الممرّات.
يوضح رئيس قسم الشؤون الدينية في دائرة الأوقاف في طرابلس الشيخ فراس بلوط المشكلات التي تعانيها مقابر طرابلس، بدءاً من المخلّفات القديمة التي تشكّل المسبّب المزمن لهذه الفوضى. وأهمّ هذه المخالفات تبرز في الأكشاك، أي الأقفاص الحديدية التي تسيّج القبور، والتي تحتلّ مساحات واسعة، فتحرم الكثير من الناس الاستفادة من أرضيّتها. ثم هناك القبور المبنيّة على مساحات عشوائيّة، من دون التفكير بالممرات، فـ"الحاجة إلى المقابر في ازدياد والمساحات في نقصان" بحسب بلوط.
مدافن التبانة الأكثر اكتظاظاً.
أزمات "التبانة" و"باب الرمل" و"الغرباء"
تتقدّم مقبرة "التبانة" أزمة المدافن، فقد أبلغنا المسؤول عنها أنّها تخطّت قدرتها الاستيعابيّة منذ نحو السّنة.
تشكّل هذه المقبرة المثوى الأخير لمئات العائلات الطرابلسيّة المسلمة، وجلّها من تلك التي نزحت إلى طرابلس من الأقضية المجاورة، ونقلت نفوسها إلى دوائرها الرسميّة منذ عشرة أجيال خلت. على امتداد مساحتها البالغة 10 آلاف متر مربّع، تتداخل القبور وتكتظّ، وقد تفصلها مسافة لا تتعدّى الـ30 سنتميتراً في أفضل الأحوال.
وضع مقابر باب الرمل ليس أفضل حالاً، فالفوضى واحدة، والمخالفات عينها تشغل مساحتها الشاسعة التي تبلغ 40 ألف متر مربّع. يستدرك المهندس في دائرة الأوقاف حازم عيش بالقول إن "الأماكن الجديدة معدومة".
حين تتجوّل في مقبرة باب الرمل، سيطالعك وجهاً من التفاوت الطبقيّ الغائر في سمات المدينة، لتلمس أنّه لا يفارق المواطنين من المهد إلى اللحد. مساحات خُصّصت لقبور عائلات طرابلسية تُعدّ عريقة ومقتدرة، تميّزها من مجسّمات رخاميّة فاخرة، وحولها بنيت الأكشاك المشكّلة من قضبان حديدية مقفلة، وفي داخلها مقاعد للاستراحة.
على بُعد بضعة سنتيمترات، هناك قبور مسحتها بصمة السّنين، وغدر بها تعاقب الفصول، لا يُرى في البعض منها سوى الشاهد وبعض بقايا النبات وسعف الأيس، التي تُغرس عادة في مواسم الأعياد. وبعض الأشجار المعمرة في المكان تنامت جذورها حتى اخترقت بعض القبور وتسبّبت بتكسيرها.
مساكن الصفائح المنتشرة في مقبرة الغرباء.
وتتطرّف معادلة الفقر في المدافن داخل "الخشخاشة". هذا الاسم، الّذي يُنسب عُموماً لغُرف دفن الموتى، يُتّخذ معنى آخر أليماً لدى عابري السبيل، ممّن ليس لهم أقرباء أو علاقات اجتماعية في طرابلس، أو ممَن يُشار إليهم بالتعبير الشعبي "مقطوع من شجرة". و"خشخاشة" باب الرمل هي عبارة عن حفرة قائمة داخل غرفة مخصّصة لدفن جثث هؤلاء: يُفتح باب الخشخاشة، وتوضَع فيه الجثة ثم يعاد تسكيره. ويبادر بعض المحسنين أحياناً إلى التكفّل بغسل جثة الميت وتكفينها.
أما مقبرة الغرباء، فتتفرد بمشكلة مستعصية على الزمن بسبب التسيّب الذي ألمّ بها منذ عقود، من دون أيّ ضابط أو رادع، إذ تشغل المقبرةَ بيوتٌ من صفائح الألمنيوم والحديد والطوب المكشوف، وتقطنها أكثر من 600 عائلة شديدة العوز. توالف هؤلاء الناس مع الموتى في موت مشترك، فحياتهم عبارة عن اعتداء على مساحة الموتى.
تبلغ مساحة مقبرة الغرباء 35 ألف متر مربّع، من ضمنها 10 آلاف، أي نحو الثلث، تشغله مجموعة من الأكواخ المتناثرة هنا وهناك... وتشترك "الغرباء" مع مقبرتي "باب التبانة" و"باب الرمل" في فوضى القبور المتداخلة، ويهجرها الاهتمام لناحية اقتلاع العشب اليابس والأشواك وإفساح المجال للمرور. يفسّر اسم المقبرة دورها المستمر منذ الحكم العثماني في تأمين مدافن لغير اللبنانيين الذين سكنوا طرابلس، ولا تزال تحتضن عائلات مقيمة غير طرابلسيّة ونازحين ومكتومي القيد.
في هذا الصدد، يؤكّد المهندس عيش أن لا دراسات ولا أيّ تخطيط أقيم في الدائرة للمقابر، وبذلك تنعدم الرؤية العامة لها. وعند رجوعنا إليه لاستخلاص إحصاءات عن عدد الموتى والقبور في كلّ مدفن، يوضح بأن لا وجود لهذه الأرقام في سجلّات الأوقاف، "ولكننا حاليًا بصدد إعدادها".
مدافن الرحمة "لِمن استطاع"؟
تقع في تلّة أبي سمراء الطرابلسية، وتحديداً ضمن امتدادها في بساتين الزيتون. تدخلها كأنك في متنزّه وادع. تتّسم بمنظر هادئ وبسيط، حيث يمكن للزوار السير بين المقابر بسهولة، والتأمّل في المساحات الواسعة. ممرات معبّدة، قبور مرقّمة، هندسة متوازية ومتساوية، لا وجود للأكشاك. المشهد هنا مناقض لما تعكسه المقابر القديمة في طرابلس.
"المدفن مجهّز، لا ينقصه إلا الميت"، بتعبير المهندس عيش.
الجدير بالذكر أنّ هذه المقبرة مملوكة من الأوقاف منذ عام 1999، وهي تحت إشرافها. وقد بدأ العمل بها عام 2001. وبمساحتها البالغة 90 ألف متر مربّع، تُعتبر الأوسع في طرابلس.
شُيِّدت مدافن "الرحمة" لتستوعب نحو 12 ألف قبر، مقسّمة إلى مربّعات مجهّزة لتضمّ قبوراً من المفترض أن يتمّ تجهيزها لاحقاً، إلى جانب 400 قبر متاح منذ بداية تأسيس المقبرة. ثم بُني 1353 قبراً في المرحلة التوسّعية للمقبرة. وإلى حدّ الآن، جرى شراء 850 قبراً، منها ما بدأ يحتضن الموتى، ومنها ما استبق البعض شراءها من أجل ضمان قبرٍ لهم.
في المقلب الآخر، تبدو هذه المقبرة ممهورة بوسم "أيها الفقراء، ممنوع عليكم الدفن. هذه المقبرة ليست لكم"، وذلك بالنظر إلى سعر القبر الواحد الذي يبلغ 900 دولار أميركي. قد يبدو هذا المبلغ منطقيّاً بالنظر إلى الخدمات المتوافرة. ويوضح عيش بأن "التجهيزات كلّفت مبالغ طائلة"، وبالتالي "إذا قدّمنا هذه المدافن بالمجان، فلا يمكننا تشييد مدافن جديدة".
"لسا بساع أكتر من يلي مدفون فيها"
عادة ما يدفن مسيحيو طرابلس في مدافن مخصّصة في مناطق القبّة، والميناء، وسابقاً في أبي سمراء. وتنتظم مقابر المسيحيين، وفقاً لشعائرهم، على شكل غرف. تحصل كلّ عائلة على مقبرة واحدة أو أكثر حسب عدد أفراد العائلة. لكن أزمة اكتظاظ المقابر لا تطالهم كالمسلمين، وذلك يعود لأعدادهم القليلة وتطوّرهم الديموغرافي البطيء في المدينة عموماً.
يؤكّد الأب سمير كوكامي، راعي كنيسة مار جاورجيوس للروم الأرثوذكس في الزاهرية، أنّ "مدافن الأرثوذكس في القبّة قادرة على استيعاب أعداد أكثر من المدفونين فيها"، مضيفاً أن "لا مشكلة لدينا. أراضينا البور واسعة".
تمتدّ المقبرة على مساحة 5 آلاف متر مربّع، وتديرها جمعيّة القديس جاورجيوس التابعة للكنيسة نفسها، فيما "العائلات الميسورة كانت تدفن موتاها في أديرة مجاورة لطرابلس (دير مار يعقوب، دير بكفكين، دير الناطور، ودير البلمند)."
ويلفت الأب باسيليوس الدّبس، الكاهن في رعية الميناء، إلى أنّ المساحة الإجمالية لأرض المدافن والبالغة 13900 متر مربّع (الكنيسة ضمناً) فسيحة، وغير مهدّدة بالإشباع. تدير الكنيسة هذه المدافن من خلال لجنة الكنيسة والأوقاف في مجلس الرعية، وتقام خدمة الجناز في كنائس الرعية، ثم تنقل الجثامين إلى مقابر العائلات، وبعضها يعود إلى القرن التاسع عشر. ويجري حاليّاً بناء عدّة مقابر جديدة للعائلات التابعة للرعية أكانت في الوطن أم في المغتربات.
مسؤوليات البلدية والأوقاف
استبعد رئيس بلدية طرابلس المهندس أحمد قمر الدين مسؤوليّة البلدية. وبحسبه أنّ الأوقاف هي المسؤولة عن المقابر لأنّ الأراضي تابعة لها، "ومن يُرد أن يدفن موتاه يأخذ إذناً من الأوقاف وليس من البلدية".
ويتابع أن الأوقاف مرّت بفترة ضعف في إمكانياتها فـ"ساعدناها في تنظيف المقابر، وإلّا فهذه مسؤولية الأوقاف".
ولكن الأوقاف ترى أن تنظيف المقابر وحراستها من مسؤوليات البلدية، إلّا أنّها أخذت على عاتقها تولّي هذه الجوانب أيضاً "لأنّ الأراضي وقفيّة".
وفي حين أن مساحات المقابر في تراجع مطّرد، يرى الشيخ فراس بلوط أنّه إن فرزت البلديات بعضاً من أراضيها فمن الممكن أن تخفّف من وطأة هذه الأزمة، فتحوَّل هذه الأراضي إلى مقابر، وتعتني البلدية بصيانتها.
أمام تقاذف المسؤوليات هذا، يبقى الفقير يتخبّط بين سندان المدافن المشبعة ومطرقة الرسوم الخيالية.
حلول الأوقاف
هل للأزمة أفق مسدود؟ تلفت الأوقاف إلى سعيها لهدم القبور الوهميّة، وتشديد الرقابة على قوائم ملزمة تُرفَع لها بكلّ المصاريف والمداخيل الّتي تُستحصل من عمليّات الدّفن.
ويختم الشيخ بلوط باقتراح مبلغ سنويّ تتقاضاه الأوقاف من المواطنين لتهتمّ بالمقابر، وتُقَسَّم هذه المبالغ حسب الطبقة الاجتماعية، ومن الوارد البدء بتطبيق هذه الخطوة عبر حملة تبرّعات.
ويبقى السؤال: على أيّ أساس سيُحَدَّد هذا المبلغ؟ وهل فقراء طرابلس الذين بالكاد يستطيعون تأمين كفاف عيشهم، سيتقبّلون دفع هذه المبالغ التي سيؤجّل مفعولها إلى الممات؟
إلى حين الحلول الموعودة، لا تزال الأرض في طرابلس تلفظ فقراءها أحياءً وأمواتاً، بفعل أزمة اقتصادية ومالية وإجتماعية توسّع الشروخ بينهم وبين الأغنياء. ولا عجب أن تستفحل هذه المعاناة في المدينة التي تشكّل الوجهة الأساسية للهاربين عبر البحر والضائقين ذرعاً بشقاء الأرض.