يخاف اللبنانيون من المولّد الذي ينفث دخانا أسود ويطلبون الى صاحبه أو الى الجهات المسؤولة إلزامه تركيب "فلتر". لكن هؤلاء لا يعلمون ان المشكلة الأشد خطورة تكمن في الجزئيات البسيطة السامة والتي لا تظهر للعيان. لذا ترتفع الاصابات بالامراض السرطانية بشكل كبير، لان تلك الجزئيات تدخل مباشرة الى الدم وتصيب اعضاء الجسم، وهي التي تجوز تسميتها "الخبيثة" قبل المرض الخبيث إياه.
قبل مدة، عملت شركة "سوليدير" مع الجامعة الاميركية في بيروت والنائبة نجاة عون لقياس نِسب التلوث في بيروت الادارية اولاً، والمبادرة مع اصحاب المولدات الكبيرة الى تركيب فلاتر متخصصة ثانياً. وركّبت الشركة نحو 25 جهاز استشعار وقياس في أحياء بيروت الادارية لتأتي نتائج الدراسة علمية ودقيقة.
المسعى الذي عملت عليه "سوليدير" وانطلقت به حقق نجاحا جزئيا حتى تاريخه، وهو النجاح بالاقناع، إذ ان المبادرة لم تدعّم بقرارات وزارية مفصّلة تفرض اجهزة تنقية الهواء بمواصفات محددة بل أبقت الهامش واسعا امام اختيار نوع "الفلتر"، وهو ما يدفع المعنيين الى اختيار الاقل كلفة، وليس الاكثر فعالية.
حاليا، يرزح نحو 500 ألف فرد من أهالي وسكان بيروت الإدارية، تحت وطأة المضاعفات الصحية الخطيرة للمولّدات الكهربائيّة الخاصّة التي تنتشر بكثافة في مساحة لا تتخطّى 20 كيلومتراً مربعاً، أو في بيروت الكبرى التي تُقدر مساحتها بـ 70 كيلومتراً مربعاً، ويقيم فيها نحو مليوني انسان وفق أرقام "الدولية للمعلومات".
وكان آخر إحصاء أجرته الجامعة الأميركية في بيروت عام 2017، كشف عن وجود نحو 9 آلاف مولّد كهربائي في بيروت الإداريّة وحدها، وقد ارتفع هذا العدد بعد أزمة الانقطاع الحاد في التيار الكهربائي.
في أيار الماضي، توجه رئيس مجلس ادارة "سوليدير" ناصر الشماع بكتاب الى الرئيس نجيب ميقاتي عرض فيه نتائج الدراسة المنجزة، ومما فيها: "أظهر قياس التركيز الكتلي لـPM 2.5 في وسط المدينة والجامعة الأميركية في بيروت تجاوز المتوسط السنوي للحد الموصى به بنسبة 438% و290%، على التوالي. وأظهر التحليل الكيميائي لمرشحات الجسيمات أن كلا الموقعين لهما جسيمات متشابهة وهي علامات ملازمة للديزل وانبعاثات المرور.
وفي بعض خلاصات الدراسة:
1 – تبيّن الكمّ الكبير والمتنوّع الطبيعة والحجم للإنبعاثات المؤذية للبيئة والصحة معاً.
2 – تبيّن أيضاً – الأمر الذي يزيد الضرر الداهم – وجود كمية هائلة من جسيمات انبعاثات حرق المازوت الدقيقة (particules) ذات الحجم الذي يقل عن 2,5 ميكرو ميتر. تلك الانبعاثات التي علاوة على ضررها على البيئة بشكل عام، فهي تتسلل بسبب صغرها الى الجهاز التنفسي عند الإنسان وتنفذ نتيجة ذلك الى الرئتين ومن ثم الى الشرايين والدورة الدموية PM 2.5 is one of the most (critical air pollutants affecting human health)، مع ما ينتج عن ذلك من أمراض خطيرة للبيئة ومميتة للإنسان.
3 – إن الطريقة الأنجع لمحاربة الانبعاثات، سيما الجزئيات الصغيرة، تكمن في تركيب جهاز تنقية الهواء (Soot particulate filter)، إذ إن سائر أجهزة فلترة الدواخين (مثلاً Cyclone filter, catalytic converter ألخ...) والتي أوصت بها التعاميم السابقة – ولا سيما التعميمان الرقم 1/10 تاريخ 19/2/2011 و1/100 تاريخ 29/7/2013 – هي غير صالحة تقنياً وغير قادرة عملياً على منع تسرب الجزئيات الصغيرة، وبالتالي لا تضمن حماية البيئة والصحة العامة بشكل فاعل ورادع.
وطلبت "سوليدير" الى وزير البيئة ناصر ياسين، اصدار قرار جديد يتعلق في مرحلة أولى بمراقبة تشغيل واستثمار المولدات الكهربائية في وسط بيروت، التي توازي أو تفوق قدرتها الـ 200 ك. ف. أ. بتركيب جهاز تنقية الهواء (soot particulate filter) وفق المواصفات الفنية المرفقة (...)، لكن القرار الذي اصدره الوزير يحتمل التأويل، اذ تضمّن كلمة "أو" بما يسمح لأصحاب المولدات باختيار انواع من الفلاتر. قرار فسّره المتابعون بانه رضوخ لـ"مافيا المولدات" والسبب ان كلفة الفلتر تراوح ما بين عشرة الى عشرين الف دولار.
فقد أعطى التعميم الصادر عن الوزير ياسين الخيار ما بين الإهراء المخروطي Cylone Filter أو فلتر سخام لجسيمات الديزل (Soot Filter).
وعليه، فإن التعميم لا يتماشى مع توصيات الدراسة العلمية المعدّة بالتعاون مع الجامعة الأميركية في بيروت (تملك وزارة البيئة نسخة منها)، حيث لم يتم فرض السبيل لمكافحة جسيمات الديزل أي – Soot Filter وقد تم في الدراسة المذكورة تبيان (إن كان من القياسات الحية أم شتى المحاكاة) أن Soot Filter هو الطريقة الوحيدة لحجب وفلترة جسيمات الـPPM 2.5، ورفع ضررها الداهم على الصحة.
وقد أعطى التعميم الخيار في هذا المجال لمشغّلي المولدات ما بين Cyclone الذي لا يكافح ppm 2.5و Soot filter ذي الكلفة الأعلى) مع ما يترتب من نتائج معروفة سلفاً، أي قصور في حماية الصحة العامة عن طريق تعميم لا يفرض بشكل حاسم وسائل حمايتها من آثار الجزيئيات ذات الحجم ما بين 2.5 الألف من الميلليمتر وهي الجزيئيات غير المرئية التي تتسلل الى الجهاز التنفسي والدورة الدموية للإنسان وما يترتب على ذلك من نتائج كارثية على الصحة.
ما هو الواقع حاليا ؟ يبدو واضحا ان معظم الشركات والمؤسسات، باستثناء قلة منها، اقتنعت بفكرة اعتماد الوسائل الاكثر حماية، وتبذل محاولات مع اصحاب شركات يفضلون توفير التكلفة، لكنهم في الوقت عينه يعرضون المشروع كله للتعطيل، اذ ماذا ينفع ان تحافظ بناية على البيئة فيما تنفث التي في جوارها كل انواع السموم؟.
هل من اجراءات زجرية ؟ يقول مصدر في سوليدير ان الفرض ملك الدولة ووزاراتها واجهزتها الرسمية. ونحن نواظب على المتابعة مع رئاسة الحكومةووزارة البيئة ومحافظ بيروت الذي يحتاج للتنفيذ قرارا وزاريا واضحا.
واذا كان لبنان غارقا في ازماته وتلوثه من الف نوع ونوع، فان المبادرة تعتبر شمعة في ليل العاصمة التي تحاول ان تستعيد حيويتها. ومتى نجحت الفكرة في بيروت الادارية يصبح توسعة اطارها ممكنا في بيروت الكبرى، فتنخفض نسبة التلوث ما امكن، وربما تتراجع اعداد المصابين بانواع السرطان.