ترجمة وتعليق: كميل عيد - ميلانو
بين الصحف والوثائق الإيطاليّة القديمة، مجلّة Geografia per tutti ("الجغرافيا للجميع")، كانت تصدر كل أسبوعين، وعلى غلافها أنها تُعنى بــ"نشر المعارف الجغرافية". وفي عدد منها سنة 1893، وفي باب "من هنا وهناك حول العالَم"، مقال عنوانه "بيروت ومدارسها"، ذو مقدمة تَذكر أن معلوماته مقتَبَسَة من كرّاس "المصالح الإيطاليّة في المشرق، وخاصّة في سوريا"، وضعه الباحث في شؤون المشرق لويجي بافيا Luigi Pavia، أَملًا أن المعلومات فيه "ستحوز على اهتمام القرّاء".
تتصدّر المقال صورة منظر لبيروت لم تذكر المجلّة مصدره ولا تاريخه، لكنّه شبيه جدًّا برسم عن عاصمتنا صدر في منشور رحلات Rip van Winkle عام 1882. ويصف كاتب المقال موضوعيًّا دور بيروت التربويّ كما بدأت تُبرزه فترتئذٍ ويعدِّد أَهمّ المدارس فيها، دافعًا بلاده إيطاليا إلى استدراك ضحالة حضورها التربويّ حيال حضور دول غربيّة أخرى في مدينةٍ "تشهد ازدهارًا مطّردًا على كافّة الصُعُد". وهنا ترجمة المقال كاملًا عن أصله الإيطالي:
"على شواطئ فينيقيا، في منتصف الساحل الممتدّ من مصر إلى آسيا الصغرى، مدينةٌ تزدهر كلّ يوم أَكثر، عددُ سكّانها في أقلّ من 30 سنة ارتفع من 25 ألف نسمة إلى 120 ألفًا. وهي مركزٌ رئيس للتجارة والبناء والمكاتب المهنيّة، وباتت موقعًا يتدفّق إليه كلّ شيء من المناطق المحاذية أو الداخليّة. وهي قريبًا ستفوق دمشق اقتصاديًّا واجتماعيًا ودوليًّا رغم عراقة دمشق التاريخية وشهرتِها وسكانِّها من 250 ألف نسمة. هذه المدينة هي بيروت. وهي لغير سببٍ تحتلّ على تلك السواحل، وحتّى البحر الأسود، منزلة ميلانو في إيطاليا. فللتعليم فيها مدارس مزدهرة جدًّا، منها "المدرسة الإعداديّة التركية" (يسمِّيها كاتب المقالI’dadi) مع كليّة تابعة لها. وإنني، بتردُّدي اليومي عليها لصداقتي مع مديرها، أشهد على مستواها الراقي في تنسيق نشاطاتها واختيار هيئة التدريس فيها بعناية. وثمة مدرستان مسيحيّتان عاليتا المستوى، إحداهما تتبع لبطريركيّة الروم الكاثوليك، والأخرى للمطران المارونيّ الدبس(1)، وهما معهدان سوريّان يضاهيان الكثير من معاهدنا. هذه المدارس الثلاث تحضنها مبانٍ كبيرة جميلة، ويرتادها تلامذة كثُر من كلّ أمّة ودين. ولاحظت فيها انضباطًا تامًّا وأعلى درجات النظام.
وفي بيروت نحو خمسين مدرسة غير محلّيّة، أسّسها أوروبيّون وأميركيّون. بعضها ليس لديه ما يحسده على أفضل مدارسنا، يملك مباني رائعة وشاسعة ومريحة تنافس أفضل المباني الدراسيّة في أوروبّا.
منها: الجامعة الأميركيّة، في رأس بيروت، مع كلّية طبّ ولاهوت ومدارس صغرى، ومتحف للتاريخ الطبيعيّ ومطبعة دار نشر نشيطة (قرب المدينة القديمة) تنافس بين 10 و12 مطبعة تابعة لعدد مماثل من الصحف.
ومنها جامعة اليسوعيين الفرنسيّة، تضمّ كليّة طبّ فاقت نظيرتها في المدّة الأخيرة، وتُلحق بها مدارس أدنى بين ثانويّة ومهنيّة وصفوف ابتدائيّة ومدرسة داخليّة. يبلغ عدد المداومين فيها نحو 1500. وللآباء اليسوعيّين، قرب مدارسهم إنما بإدارة مستقلة، مطبعة دار نشر كبرى تُصدر مؤلّفات قيّمة تهتمّ خاصّة بتدريس اللغات والآداب العربيّة للفرنسيّين وتلك الفرنسيّة للعرب؛ ومجمّع مباني اليسوعيّين يمتد على مساحة تفوق مساحة القصر الملكيّ في ميلانو. وكذلك يبدو كالقصر معهدُ راهبات الناصرة، وهنّ أيضًا من فرنسا، ويُشرف على بيروت من تلّة شرقيَّ المدينة، يضمّ نحو 500 طالبة تقريبًا. وثمة أيضًا مدرسة الإخوة المسيحيين [الفرير] ومدرسة اللعازاريّين، وكلتاهما فرنسيّة.
وفي أنحاء المدينة أيضًا نحو 12 مدرسة راقية تابعة للإرسالية الإنكليزية (British Syrian Schools)، بينها مدرسة رئيسيّة، ومدارس كثيرة للصبيان والبنات تابعة للإرساليّة الاسكتلنديّة، ومعهد مزدهر للراهبات البروسيّات تلحق به دارٌ للأيتام، ومعهد تربويّ مع ميتم ومستشفى لراهبات المحبّة الفرنسيّات. وأشيح الآن عن مدارسَ أخرى كثيرةٍ بروتستانتية وكاثوليكيّة وأرثوذكسيّة وعربيّة (مارونيّة) ويهوديّة وأرمنيّة وتركيّة(2)، كما عن المستشفى الفرنسيّ(3) في رأس بيروت والمستوصفات والصيدليّات الفرنسية والألمانيّة، وأوجز فأقول إن في بيروت مدرسة عند كلّ خطوة، وهي مدارس جيّدة، حسنة التنظيم، كاملة التجهيز، يرتادها جمعٌ غفير. وبسبب هذا التدفّق المستمرّ والقويّ للمصالح والأشخاص من كلّ أنحاء المشرق، وبفضل لقب "المدينة المثقّفة" الذي حازت عليه بيروت حاجبةً مجدَ القاهرة، تضاعف عدد المدارس واجتذبت أعدادًا غفيرة من الطلاب وهي تحافظ على مظهرها ورونقها.
حيال كل ما ذكرتُه، ما الذي لنا نحن [الإيطاليين] في بيروت؟ مدرسة ابتدائيّة مجانية فقط، يرتادها نحو 90 بالمئة من أبناء أكثر الأُسر بؤسًا (4)، لذا يتجنبها أبناء الأسر الميسورة لتفادي الظهور بمظهر التعساء، ولأنّهم - إزاء فقدان مدرسة ثانويّة بعد الابتدائيّة - يفضلون بدء الدورات في مكان آخر للتمكّن من إنهائها. وقبل شهر كتب لي مواطن من بيروت: "في السنة المقبلة سأضطرّ إلى سحب بناتي من المدرسة الإيطاليّة وإلحاقهنّ بمدرسة أخرى، إذ يتابعن للمرّة الثانية الصفّ ذاته ووصلن إلى أعمدة هرقل(5) حيث لا مجال للتقدّم أكثر". ووردت في رسالته عبارات استياء لغياب أيّ هيبة واعتبار لنا في تلك المناطق. وهو ليس الوحيد يكتب لي في هذا الموضوع. فالمدرسة الإيطاليّة القائمة منذ 24 سنة، محاطة بأخواتٍ لها تصغُرها سنًّا تركنَها على مسافة ألف ميل إلى الخلف من حيث الأهمّيّة، ولم نقم بأيّ ما يرفع مستواها قليلًا، مع أنّ تقريرًا رسميًّا رُفع قبل خمس سنوات إلى الوزارة حول مدارسنا في الشرق، شكا بأن بيروت تفتقر إلى مدرسة ثانويّة. وجاء في ذاك التقرير: "بعد إعادة تنظيم التعليم الابتدائيّ سيكون ضروريًّا توفير مستوى تعليم ثانويّ أو تقنيّ أو تجاريّ أو صناعيّ، إذا شئنا ألّا تتعرّض للنسيان لغتُنا التي ندرّسها في سنوات الطفولة".
هنا ينتهي اقتباس المقال في مجلّة "الجغرافيا للجميع"، لكنني عثرتُ على نسخة منه كاملة (27 صفحة) وردت فيها معلومات أخرى عن تاريخ بيروت في تلك الحقبة، وبخاصّةٍ دورها الاقتصاديّ، آمل أن يتاح لي نشرها قريبًا.
الهوامش
(1) هو المطران يوسف الدبس، راعي أبرشيّة بيروت المارونية من 1872 إلى 1907، وهو صاحب موسوعة "تاريخ سوريا الدنيويّ والدينيّ" ومؤسّس مدرسة "الحكمة" وكاتدرائيّة القديس جرجس (المترجم).
(2) تضمّ ولاية بيروت 381 مدرسة محليّة، بينها 57 في بيروت وحدها، استنادًا إلى البيانات الرسميّة في شباط 1893، أي عند إرسال هذا المقال إلى الطباعة (ملاحظة كاتب المقال).
(3) المستشفيات مدفوعة الأجر، يتنافس فيها أطبّاء أوروبيين وأميركان لبلوغ النجاح والتقدير. وقبلًا خدم أطباء إيطاليون في أماكن عدّة لدى الحكومة التركيّة، لكنّ الأطبّاء الفرنسيين والألمان حلّوا الآن مكانهم ولم يبقَ منهم إلا الطبيب الإيطالي العجوز دي لوتشيانو De Luciano يمارس عمله في مكتب الحجر الصحيّ (الكرنتينا) في بيروت (ملاحظة كاتب المقال).
(4) يذكر صاحب المقال أنّ تلامذة المدرسة الإيطاليّة 340، بينهم 20 إيطاليًّا فقط، عشرة ذكور وعشر إناث، يكلِّفون الدولة الإيطاليّة 35 ألف فرنك سنويًّا (المترجم).
(5) هو مضيق جبل طارق، بمعنى "أقصى حدود المعمورة" والعلْم (المترجم).