غدي حداد
هذا الحديث مع رئيس جامعة هايكازيان الدكتور بول هايدوستيان ليس حول الجامعة وبرامجها واقساطها وما اليها، إنه دردشة واستذكار لعشرين سنة من رئاسة جامعة، اي جامعة، في خضم التحديات، وما اكثرها في لبنان. دردشة حول العِبر والدروس، ومصارحة حول المآخذ، والحاضر والمستقبل، وما اذا كانت جامعات لبنان فشلت في اكثر من التعليم. ميزته انه قسيس يريد ان يجمع بين رسالته ودوره الاداري، وهو ارمني مثل جامعته التي تعمل للخروج من اطار ضيق يحصرها فقط بالارمن في محيط متعدد ومتنوع سياسيا وطائفيا.
حول كل هذه الافكار، كانت جلسة الدردشة التي انطلقنا فيها من سؤال عما يمكن لشخص تمرّس في الوظيفة 20 عاما أن يُعطي أكثر بعد كل هذه السنين؟
يقول: "من صفات الجامعة انها منتدى للتطور والتغيير. مثلاً الطلاّب يتخرجون بسرعة، البرامج الأكاديمية وغير الأكاديمية تتطور، كذلك ينمو حرم الجامعة وأنواع ومواضيع المؤتمرات والابحاث. من مسؤوليات الرئيس الإشراف على التطوير، والتمكين، إضافة الى المحافظة قدر الممكن على التوازن بكل المعايير والمحافظة على الثبات في تحقيق الأهداف. ولأن هناك جديدا في كل مرحلة، أظل أنا شخصياً اعتبر انني أتتلمذ من جديد، أستفيد من خبرتي، علماً أنّني من جهة أخرى يمكن أن أكون ضحية خبرتي هذه".
• هل مللت في ظروف لبنان الصعبة، وخصوصاً في ظل الانهيار الاقتصادي والمالي الذي لا يترك مجالاً للتطوّر إنّما فقط للبقاء؟ وكيف تعايشت مع هذه الازمة؟
- بالطبع أشعر بالانزعاج أكثر ممّا أشعر بالملل، فهذه الظروف مرهقة جداً، فكرياً، جسدياً، ونفسياً. لكن كل إنجاز، وان يكن صغيرا، يعطي في ظل الانهيار بعض شعور بالارتياح. حاولت أن أكون مرناً حيال الظروف، من خلال عيش الحزن مع الآخرين واستعادة الفرح بالإيمان وبالعمل. المُرهِق الاساسي هو أننا لا نستطيع أن نخطّط بدقة من أجل المستقبل. فالجامعة تتطلب الخطط البعيدة المدى ولكن الظروف الحالية لا تسمح. الجميع يتحوّل في ظل الازمات. يحمل همّ إدارة الأزمات الصغيرة والكبيرة. الرئيس هو أوّل من يجب أن يتغيّر. فجأةً يتحول الرئيس حلاّل مشاكل ومرشدا إجتماعيا ومحلّلا سياسيا وأيضاً خبيرا ماليا. تعايشتُ مع الأزمة بهذه الطريقة، وطالما ان لدينا طلاّبا يتعلّمون، ويريدون أن يختاروا حياة المستقبل من خلالنا، فهُم يبقون خطتنا وهدفنا وفخرنا.
• صحيح أن المناصب مُغرية لكن اختبارها صعب، وغالباً ما يفكّر الإنسان بالتخلّي عنها، بعد امتلائه من المنصب، هل تتشوّق إلى ترك الموقع مثلاً؟
- يمكنني القول إنّ المنصب لم يبدل فيّ شيئا. المنصب فرصة لتمكين الذات من أجل تحقيق رسالة تمكين الآخرين، وخصوصا الجيل الجديد. نحن الأمل الوحيد عندهم. لكن لا أُخفي عليك أنّي أتشوّق لأن أبحث في أمور عدة من توثيق مئات المحاضرات وتحويلها الى كتب، والقيام بمزيد من الأبحاث في مواضيع مختلفة وبخاصة موضوعَي المجتمع والتاريخ. عندما أترك بعض مناصبي الحالية في الجامعة وخارجها، هناك أمور إدارية لن اشتاق لها. أمّا بالنسبة للحاضر، هل مللت؟ أنا أواكب الجامعة في الرسالة الأكاديمية المتغيرة، لذا، في الحقيقة، لا أتشوّق لترك الموقع.
• هل وجدت تضاربا ما بين رئاستك لجامعة وبين كونك قسيسا تحرجه امور الادارة والمال؟
- انّ كوني قسيساً وقد درستُ في وقتٍ سابق علم النفس، أعطاني فرصة لفهم الناس ومشاكلهم بعمق بعيدا من الادارة. ربما أعيش في بعض الاحيان صراعا بين الصرامة والصبر كما اعيش في هاجس كوني قسيساً، كي لا أبدو أعلى منصباً من الآخرين. ان الرعاية ليست ارشادا فقط بل قيادة أيضاً بمعنى الـ Leadership. سيُسأَل المسؤول يوماً ما إذا كانت قيادته حسنة أم لا.
• ما هي أبرز الخلاصات التي خرجت بها في علاقتك مع الطلاب أولاً؟ ومع الأساتذة؟ ومع المحيط؟
- إنّ التّواصل المباشر واليومي مع الطلاّب هو مفتاح فهم رسالة الجامعة. الجامعة هي نقطة وصل بين المراهقة والمستقبل المهني. وقد تعلمت ألا نكتفي بالبرامج والشهادات بل ان نلعب الدور الذي يساعدهم على الإنتقال من مرحلة إلى أخرى من خلال الصداقات الانسانية داخل المجتمع. وأجواء جامعة هايكازيان منذ 68 سنة تساعد في بناء الصداقات الانسانية. أمّا من ناحية الإداريين والأساتذة، فالشفافية هي الأساس، وتعلمت منهم أنني لست مرجعاً لكل أمورهم.
• هل تمكّنت من إخراج الجامعة من حرمها لتكون فعلاً للمحيط؟
- تطلُّ مباني الجامعة على شوارع لديها دلالات مهمّة. فالشوارع والتسميات حول الجامعة تعطي ثقة عميقة، وخصوصاً ثلاثة شوارع تحيط بنا مباشرةً ولها دلالات مهمّة وتُعطينا الوحي، وهي شوارع ميشال شيحا ومي زيادة وجبران خليل جبران. نحن نتفاعل مع المحيط وفق ما تقتضي الظروف والامكانات. لقد فتحنا ابوابنا في هايكازيان من خلال التدريب الاجتماعي والمجتمعي فتعاونّا مثلاً مع الصّليب الأحمر اللبناني، وقد استضفنا في آخر 15 سنة اشخاصا ناشطين في المجتمع، يخدمون المجتمع في الصميم. حرمنا مفتوح جغرافياً على مبانٍ سكنية وشركات.
• هل تعتبر أن الجامعات، ومنها هايكازيان، شكّلت مختبراً إنسانياً بين المكوّنات اللبنانية، وهل هي نجحت أم فشلت، خصوصاً أن أي انشداد عصبي يُعيد الأمور إلى الوراء دهراً؟
- أظن أن خبرتنا نجحت في خلق جو متسامح بين الطلاب منذ البداية، اي سنة 1955 وخلال الازمات والحروب في لبنان. تحاول هايكازيان دائماً ألا تخسر هويتها لأن الهويّة هي الرسالة. لكل جامعة هويتها ورسالتها الخاصة بها. بشكل عام الجامعات هي مساحات قيّمة لبناء المجتمع. هل كل الجامعات تنجح بهذا المجال؟ كلا، الضغط الاجتماعي والسياسي والاقتصادي ضخم على الطلاب. ولأنني تعاملت مع معظم الجامعات أعلم انها تعتبر الحوار والتواصل والتسامح جزءاً أساسيّاً في استراتيجيتها.
• أنت جامعة أرمنية – انجيلية، في محيط بات مختلفاً بعض الشيء لناحية التعدد والتنوّع؟ هل أثرت عليك البيئة المحيطة سلباً أم إيجاباً؟
- إن الهويّة الأرمنية منذ بدايات التاريخ الأرمني على آلاف السنين تُعرف بالمحيط المتنوع. الارمن كانوا ومازالوا يتأقلمون مع جميع المتغيرات مهما كانت صعوبتها طالما توافرت لهم حرية العمل، حرية ابداء الرأي وحرية التربية والمحافظة على رسالتهم. إن كل المجازر والهجرات التي أصابت الأرمن تُعطيهم القوّة للعطاء والتواصل مع الآخرين. "هدفنا نعيش ولازم نخلّي لحوالينا يعيشوا أيضاً". نحن لدينا ثقافة وفنون ولغة ننظر إليها كغنى لمحيطنا، لا سببا للانعزال والافتراق.
• هل لا تزال جامعتكم ملاذاً للأرمن؟ ولماذا يقصدها الآخرون مادام طابعها أرمنيا؟
- كون الجامعة تتبع النظام الاميركي، وتعلّم باللغة الانكليزيّة، فمن الطبيعي ان تكون محط اهتمام الناس بها. "من الطبيعي وليس من الضروري أن يلجأ كل أرمني للجامعة كونه سيشعر بالامان وكأنه في منزله". ان الجامعة هي الجامعة الوحيدة الأرمنية خارج ارمينيا. والارمني لا يأتي إلى الجامعة "أرمنياً" بل يختارها وفق نظرته الى مستقبله واختصاصه. الجميع يأتي الى هايكازيان وهي ليست حكراً على الأرمن اذ احتضنت جميع الهويات.
• اخيرا هل لا يزال لبنان جامعة العرب أم فقد هذا الدور الى الابد؟
- ان الموضوع صعب جداً لأننا في عين العاصفة. واستطيع القول إن القطاع الخاص يخسر والقطاع العام ينهار. كنت دائما ارى نفسي في القطاع الخاص، لكن في الوقت عينه اذا كان القطاع العام لا يزدهر فإن البلد ينهار. الضربة الإقتصادية الحقت الاذى بالجامعات أكثر من الحروب العسكرية. "نحن الآن في مرحلة نستطيع ان ننهض كجامعات من جديد كمساحة ثقافية وتربوية، ولكن هناك تحوّل جذري حصل في البلد يمنع حالياً الجامعات من النهوض الكامل من جديد.