عبدالله عبدالصمد
هناك، تحت انعتاق الخيال، وفوق جماد المكان، أوجَدَ مطوِّرو الأنترنت مساحة تتسِّعُ لعدد لا يُحصى من العوالم، أسموها Metaverse.
حين تلبس النظّارة الخاصة، وتقوم ببعض الخطوات التمهيدية، يسقط من أمامك حاجز الشاشة، لتلِجَ عالماً انشقَّ عن المادة حاملاً معه صوَرَها وبعض الأحاسيس، ودخل إلى فضاء اللاحقيقة، حيث لا موت ولا ألم جسدٍ ولا حوادث كارثيّة.
هذا المجال التطوريّ ليس مُلكاً لشركة أو لفرد. شركاتٌ عديدة أنشأت فيه عوالمَ خاصّة بها، مثل: Unity Software، وAlphabet، وMeta وغيرها وغيرها. إذن، فالميتافيرس ليس ملكاً لـMeta كما يعتقد البعض، ولم تبتكره شركة "Facebook". أول من ذكر اسم "Metaverse" أو "ما وراء العالم" كان نيل ستيفنسون في روايته "Snow crash" الصادرة في العام 1992.
دعونا لا نطيل الشرح والتوصيف، فالكلّ بات يعرف، ولو القليل، عن هذا العالم بتقنيّتي الواقع الافتراضي، والواقع المعزَّز، إنْ من خلال القراءة، أو الأحاديث المتداولة، أو الولوج. فموضوعنا الآن يقتصر على بحث محدد، هو: كيف سيساعد الميتافيرس ذوي الاحتياجات الخاصة، أكانوا يعانون من مشكلات جسدية أم عقلية؟ بصورة أخرى: هل سيعيد الميتافيرس ما سلبته الطبيعة منهم؟
نشر Stefan M مقالاً على موقع NFT news today بتاريخ 17/5/2023، جاء فيه: "بتمويل من مجلس أبحاث الهندسة والعلوم الفيزيائية (المملكة المتحدة)، تعاونت جامعتا Brunel وCambridge مع Meta، لاستكشاف كيف يمكن للميتافيرس مساعدة الأشخاص ذوي الإعاقة في حياتهم اليومية... يُطلق على المشروع اسم الواقع الافتراضي الاجتماعي، ويهدف إلى البحث في كيفية جعل العالم الافتراضي أكثر شمولاً ويمكن الوصول إليه للأشخاص ذوي الإعاقة، ومساعدتهم في التغلب على المشكلات التي يواجهونها في العالم الماديّ. فيتمكنون من ممارسة جميع النشاطات من دون حواجز مانعة.
جيد، إنها انطلاقة تحمل الكثير من الأمل، لكننا سنعيد السؤال على مسمع رئيس جمعية المعلوماتيين المحترفين، ونقيب تكنولوجيا التربية في لبنان ربيع بعلبكي، لعلنا نحصل منه على الإجابة التي نريد.
يقول بعلبكي: "يلعب الميتافيرس دورين أساسيين في هذا المجال، دوراً نفسيّاً، ودوراً جسديّاً، وهما مترابطان إلى حدّ كبير.
نفسياً: يمكن لصاحب الإعاقة أن يستعيد كل ما حُرم منه في العالم الواقعي، فالميتافيرس يؤمّن فرصاً متساوية للجميع، تعليم، تنقُّل، لهو، عمل، حياة اجتماعية، وما إلى ذلك... من دون معوِّقات. فيختفي كلّ نقص جسديّ خلف أفاتار (شخصية افتراضية) يمكنه أن يقوم بما يحلو له من تصرفات ضمن أدبيات معيّنة، فيُضفي على صاحب الشخصية شعوراً بالحرية في ممارسة ما يرغب من نشاطات.
جسدياً: يمكن أن يكمّل الميتافيرس ما نقص في الجسد من أطراف (على سبيل المثال)، فعندما يقرأ الذكاء الافتراضي تصرفات وحركة المستخدم، يقوم بتوصيل الأطراف الناقصة من خلال extended reality بشكل طيف في عالم افتراضي، يقرأ حركة الطرف الناقص ويحولها إلى حركة حقيقية من خلال الاعتماد على أنترنت الأشياء".
فالجسد السليم في العالم الافتراضي بات متاحاً للجميع، حتى حاجزَيّ المرض والسنّ ما عادا عائقاً أمام ممارسة جميع الهوايات والأعمال والحركات التي يرغب المرء في القيام بها. وقد يشكّل الميتافرس لأولئك عالماً مثاليّاً للعمل وحضور الاجتماعات، والدراسة، وممارسة الهوايات، وحضور المناسبات الاجتماعية والحفلات، من دون إجبارهم على ما لا طاقة لهم بتحمّله.
يتابع بعلبكي: "كل إعاقة جسدية يمكن للميتافيرس أن يعالجها، لكن الموضوع الوحيد الذي يعيق هو فقدان الذكاء للتحكم بالشخصية الافتراضية. فنسأل هنا، هل يوجد إدراك أم لا؟ إن كان لا، فيمكن أن نكون أمام عائقٍ حقيقي. لكن بالرغم من الصعوبة، يمكن تحقيق ذلك بمساعدة المقربين، من خلال خلق محيط آمن في الميتافيرس لذوي الإعاقة الإدراكية. بمعنى آخر، يمكن أن نجعل الذكاء الاصطناعي يفكر عنهم".
من خلال بحثنا عن هذا الموضوع بالتحديد (الصعوبات غير المرئيّة)، وجدنا مَن عَكَفَ على إيجاد حلّ لهذه المشكلة. لم نقُل إن الحل قد وُجد طالما لم يأخذ وقته الكافي في الاختبار العملي، لكن من الجيد أن هناك من يحاول دمج جميع الفئات في المجتمع الجديد بطريقة سلسةٍ وبقبولٍ أكثر.
في مقابلة مصوّرة، تقول جيزال موتا، مؤسسة NFTY collective المتخصصة بدمج الأشخاص ذوي الإعاقات، إن بعض الشركات وفَّرَت صوراً رمزية للإعاقة غير المرئية مثل: اضطراب فرط الحركة، أو نقص الانتباه، أو التوحد أو غيرها... من خلال نظارات شمسية بتصميم معيّن، تزيّن الأفاتار بمظهر أنيق، لكنها تدلُّ في الوقت ذاته على حالة الشخص الحقيقية، فيتم التعامل معه بشكل يراعي حالته، ومن منظور معرفيّ مختلف.
في السنوات السابقة، لم يكن هناك خيار أمام المعوَّق جسدياً للظهور على حقيقته إن رغب في ذلك، فلم يكن هناك "أفاتارات" تُظهِر الشخص على كرسي متحرك، أو من دون أحد الأطراف على سبيل المثال؛ لذلك، ومنعاً لتهميش هذه الفئة من الناس، أدخلت بعض الشركات هذه الشخصيات الافتراضية في برامجها، وأصبحت بمتناول من يرغب. أما المعوَّقون الذين يريدون ممارسة جميع النشاطات المتاحة، ولا يرغبون في إظهار ما يعيقهم، فلهم أن يختاروا الشخصية المكتملة.
هذا المجتمع الذي يسعى مصمموه لأن يكون مثالياً، هل سيصبح كذلك فعلاً؟ أو سيبقى فيه انعكاسات سلبية على المستخدمين؟ وتحديداً على الشريحة التي يُعنى بها موضوعنا؟
إنه عالم جديد قيد التنظيم والتطوير. لذلك ما زال يضجّ بالشوائب. هناك العديد من الأفعال السيئة التي تحصل كل يوم، لكنها ليست موضوعنا الآن، وهي بالتأكيد قيد المعالجة والتصحيح، فيقول بعلبكي: "الأمم المتحدة تعمل على تنظيم قوانين قاسية للميتافيرس، لأن في إمكانه أن يؤدي إلى فعل حقيقي. وتقوم الشركات بفرض شروط صارمة، تماماً كما هي الحال على منصّات التواصل الاجتماعي. يمكن أن يؤدي عدم الالتزام إلى حظر موقّت أو دائم، بحسب الفعل المقترف".
كيف تُكتَشَف التصرفات المحظورة؟
"يقوم الذكاء الإصطناعيّ بالمراقبة وحماية خصوصية المستخدمين، فيقرأ التصرفات ويقرّر فوراً. وقد فُرضت قوانين جديدة على الشركات للتحقق من هوية المستخدم الحقيقية حتى تمنع أي انتحال لشخصيةِ بريءٍ لم يقترف الجُرم. هذا بالإضافة إلى استخدام الذكاء الاصطناعيّ المسؤول Responsible AI، الذي يعمل على النواحي الأخلاقية والمجتمعيّة. لكن الحكم النهائي سيبقى للإنسان وليس للروبوت، في أي مشكلة تحدث".
يتابع بعلبكي: "في ظلّ هذا الاهتمام العالمي بالميتافيرس، لا بدّ من أن يصبح مساحة آمنة لجميع مستخدميه، خالية من العنصرية، والتحرش، والسرقة وفقدان الخصوصية وغيرها. لكن مهما حقّقت الشركات من نجاح في الحماية، سيبقى الخطر الأكبر هو إدمان الانفصال عن الواقع الحقيقي والانعزال في عالم وهميّ بمميزات أفضل".
فهل سيكون الميتافيرس عالماً آمناً فعلاً، يحقق تطلعات أصحاب الإرادات الصلبة؟ أم سيصطدمون بعوائق ما زلنا نجهلها؟
فلنترك للأيام المقبلة حقّ الإجابة عن جميع التساؤلات.