11 تشرين الثاني 1943، صباحاً.
بيروت، ومن بعدها المدن الكبرى الواحدة تلو الأخرى، تفجرت تظاهرات صاخبة لا سابقة لها في تاريخ لبنان.
في ساعات الصباح الأولى، كان اللبنانيون قد أفاقوا على أنباء اعتقال السلطات الفرنسية خلال الليل رئيس الجمهورية (المنتخب حديثاً) الشيخ بشارة الخوري ورئيس الحكومة رياض بك الصلح والوزراء كميل شمعون، عادل عسيران، سليم تقلا، ونائب طرابلس وزعيمها عبد الحميد افندي كرامي، وسوقهم مكبّلين الى مكان مجهول في حراسة عسكرية فرنسية مشددة، بعد معاملتهم معاملة مزرية ومهينة، والاعتداء على عائلاتهم.
تناقلت الاذاعات الاجنبية الأخبار، فاطلع اللبنانيون منها على روايات متناقضة، لأن الصحف مُنعت ذلك اليوم من الصدور، مما شجّع تكاثر الشائعات وتضاربها. فازداد الهيجان وعمّ الإضراب لبنان كله مع تقدم ساعات النهار، ونزول فرق من "السنغالية" والمصفحات الى الشوارع.
ولما حاولت صحف موالية لفرنسا الصدور، وتجاهل الإضراب العام – الذي شاركت فيه الصحافة بعد تشديد الرقابة عليها – هاجمتها الجماهير واضطرتها للإحتجاب.
طوّق الجيش الفرنسي البرلمان وأقفل أبوابه لمنع النواب من الاجتماع. لكن رئيس المجلس صبري حماده، كان قد وجّه قبل ذلك دعوة خطية الى جلسة فورية، لبّاها من استطاع من النواب رغم الحصار العسكري والمظاهرات حتى أن بعض النواب، كان أبرزهم نائب طرابلس سعدي المنلا، تسلّق المبنى للدخول من النوافذ، فبلغ العدد سبعة نواب، بمن فيهم الرئيس.
اتخذ المجلس – بعد مشاورات هاتفية مع النواب الذين تعذّر عليهم الوصول – قراراً فورياً بالاجماع يؤكد فيه مواقفه السابقة في تعديل الدستور واعتبار "الانتداب الفرنسي" لاغياً.
كما تقرر الاستمرار في اعتبار الحكم القائم وحده شرعياً ورفض رئاسة السيد اميل اده وقد عيّنه "المفوض السامي"، والحؤول دون تأليفه أي حكومة يمكن أن يعيّنها وفق تكليف السلطات الفرنسية له.
وبينما كان المجلس منعقداً بمن حضر، اقتحم ضابط فرنسي قاعدة الاجتماع شاهراً سلاحه وطلب الى الرئيس والنواب مغادرة القاعة والمبنى، والا يجري إخراجهم بالقوة.
إذ ذاك توافق النواب مع الرئيس حمادة على اعتبار الجلسات مفتوحة للوقوف على التطورات واتخاذ التدابير لحماية الاستقلال، على أن يجتمع النواب خارج المجلس.
توجه النواب الى منزل رئيس الجمهورية في القنطاري، وكان عددهم قد بلغ سبعة عشر نائباً. وعند اطلاق الجنود النار على "القصر الجمهوري"، انتقل النواب الى منزل النائب صاب سلام – التاريخي منذ أيام والده سليم بك (ابو علي)، وكان قد انعقد فيه (10 آذار عام 1936) "مؤتمر الساحل" الذي رفض خلاله عدد من الزعامات الاسلامية وسواها "لبنان الكبير" كما أعلنته فرنسا باسم "عصبة الأمم" عام 1920، مؤيدين "الوحدة الشاملة" مع البلاد السورية.
ومن أبرز ما تقرر خلال اجتماع المجلس تعديل المادة الخامسة من الدستور وتغيير العلم اللبناني الذي كان قائماً في ظل الانتداب، وهو العلم الفرنسي (أزرق، أبيض، أحمر) مع أرزة في الوسط، وجرى الاتفاق على علم جديد مستوحى من التراث اللبناني: أحمر، أبيض، أحمر، افقياً، مع أرزة خضراء على الأبيض. ورُسم العلم الأول على ورقة نزعت من دفتر مدرسي، وأقرها مجلس النواب، ووقع عليها الحضور.
واستمرت الجلسات تنعقد في منزل آل سلام، ومرة أو مرتين في أمكنة أخرى، أبرزها مدرسة الحكمة حيث تميّز الإجتماع بخطبة عنيفة ضد الانتداب من المطران اغناطيوس مبارك.
واتخذ المجلس، بالأغلبية التي توافدت في جلسة 12 تشرين، قراراً بمنح الثقة للحكومة المؤلفة من الاستاذ حبيب أبي شهلا والأمير مجيد أرسلان، وكانا الوزيرين الوحيدين خارج الاعتقال، واعتبارهما مجلس وزراء يقوم مقام رئيس الجمهورية، وفقاً للدستور.
وكان عدد النواب قد بلغ في هذا الاجتماع، كما في اجتماع اليوم السابق، ثلاثة وثلاثين نائباً منهم كمال جنبلاط ونواب آخرون ممن كانوا حلفاء الرئيس اميل اده في الانتخابات النيابية.
... وفجأة وفي تمام الساعة السادسة اذاعت السلطات الفرنسية عبر محطة "راديو الشرق" قرار منع التجوّل.
معركة الإستقلال لم تبدأ في 11 تشرين الثاني بدون مقدمات.
الانطلاقة الحقيقية كانت في 8 تشرين الثاني عند انعقاد مجلس النواب بصورة عاجلة للنظر في تعديل الدستور (الموضوع أصلاً عام 1926) والاقتراع على مشروع اّعده مجلس الوزراء، في جلسته المنعقدة قبل ثلاثة أيام، مقترحا إلغاء جميع المواد المتعلقة بالانتداب الفرنسي وصلاحيات "المفوض السامي" وكل ما يتصل بها، وجعل اللغة العربية وحدها لغة لبنان الرسمية.
وجاء ذلك تنفيذا لما كان قد ورد في البيان الوزاري الذي نالت الحكومة على أساسه الثقة في 26 أيلول وفي جلسة لم تخل من الصخب، دارت مناقشات حادة انطلقت من بيان رئيس الحكومة، أيّده عدد من الخطباء. وعارض عدد محدود من النواب في طليعتهم الرئيس اميل اده الذي انسحب بعد أن رفضت الحكومة طلب الاستمهال بحجة عدم ملاءمة الاقتراع على تعديلات تمس بالوجود الفرنسي المقرر دولياً من غير مفاوضة فرنسا.
وانتهت الجلسة في جو حماسي بالموافقة بالاجماع على تعديل الدستور واعلان الاستقلال اللبناني و"تنظيمه"، واستعادة السيادة الوطنية وتهيؤ لبنان للانضمام الى المنظمة الدولية المزمع إنشاؤها بمساواة مع الأخرى (شرط إعلان الحرب على ألمانيا واليابان) مستفيداً من اعتراف الدول العظمى كلها باستقلاله.
(...)
"النهج الاستقلالي" لم يأخذ صورته التاريخية الا عند تأليف حكومة العهد الأولى برئاسة رياض بك الصلح، الزعيم العربي الذي كان قد "انتقل من السصلبية الى الإيجابية" يخوضه الانتخابات وفوزه بالنيابة عن مدينته الأصلية صيدا (دائرة محافظة الجنوب)، التي كانت قد اختارته في مطلع شبابه رئيساً لحكومتها الانتقالية في الفترة الفاصلة بين انسحاب القوى العثمانية ودخول الجيش الفرنسي، اثر الحرب العالمية الأولى.
وفي تأليف الحكومة تكرّست قاعدة التمثيل الطائفي المتساوي، انما باعتماد الشخصيات القيادية في كل طائفة، كما لم تغب بعض معالم الاعتداء والانفتاح على "الوطنيين" (الحزبية الادية)، إذ عيّن الاستاذ حبيب أبي شهلا نائباً لرئيس الحكومة بعد أن كان مرشحاً لرئاسة المجلس، فتخلى عنها للرئي سصبري حماده، الذي انتقلت معه الرئاسة الثانية الى الطائفة الشيعية.
وجاء البيان الوزاري شرعة لبنان الجديد إذ أطلق فيه الرئيس الصلح المبادئ – الشعارات التي صارت مذذاك "الميثاق الوطني" وأهمها أن لبنان "وطن ذو وجه عربي يستسيغ الخير النافع من حضارة الغرب". وأعلن إقبال الحكومة على إقامة علاقات لبنانية بالدول العربية الشقيقة على "أسس متينة تكفل احترام الدول العربية لاستقلال لبنان وسيادته التامة وسلامة حدوده الحاضرة (...) نحن لا نريده للاستعمار مستقراً، وهم لا يريدونه للاستعمار اليهم ممراً. فنحن وهم اذن نريده وطناً عزيزاً،مستقلاً، سيداً حراً".
(...)
22 تشرين الثاني، اليوم الذي صار عيداً:
بعد تبلغ "المعتقلين" قرار الافراج عنهم، انتظروا طويلاً وصول السيارات الرسمية الثلاث التي ستقلهم الى بيروت... وطلب "المندوب الفرنسي لدى الحكومة اللبنانية" المسيو دافيد ان يرافق الشيخ بشاره في سيارة الرئاسة يرفرف عليها العلم "ليكمل الحديث" الذي بدأ بإبلاغ أوامر الإفراج.
ويروي الرئيس الخوري في مذكراته أن السيارات اجتازت جماهير الهازجين في راشيا وقرى البقاع فرحاً حتى وصلت الى المديرج، حيث طلب من المسيو دافيد أن ينتقل الى سيارة أخرى ليركب معه رياض الصلح في سيارة الرئاسة، فأنزلا العلم اللبناني القديم، وكشفا السيارة، وانطلق الموكب بسيارات ودرجات الحراسة متوجهاً الى بيروت من طريق عاليه، يستقبله الأهالي قرية قرية، وتنضم اليه الوفود.
ولعل حديث "الخلوة" في السيارة بين الرئيسين كان المناسبة الحاسمة لمقارنة ما قاله الجنرال كاترو لكل من الرجلين وما قالاه له، وكان واحداً، وما سيوقلاه له وكيف يتصرفان. وأبلغ الرئيس الخوري رئيس حكومته أن المسيو دافيد طلب موعداً عاجلاً للجنرال كاترو، فعيّن له الموعد في الساعة الثالثة من بعد ظهر اليوم ذاته.
وظل رياض الصلح مرافقاً الشيخ بشارة حتى وصل الموكب الى قصر القنطاري، فترجل رئيس الجمهورية وسط حشد لا مثيل له من الجماهير، وما إن وصل الى قمة المدرج حتى وقف مخاطباً الناس بالتهنئة والشكر، بينما كان الموكب يسير برياض الصلح الى منزله في رأس النبع.
"من القنطاري الى رأس النبع"... المدينة كانت تحوّلت بحراً من الناس، فوجد الرئيس رياض الصلح نفسه يقوم في الطريق الى منزله بالجولة ذاتها التي قام بها في صحبة رئيس الجمهورية: الى ساحة النجمة، حيث كانت الجماهير قد احتلت مجلس النواب، يتقدمها "سامي بك" (الصلح) ممتطياً صهوة جواد أبيض... فالى ساحة الشهداء (البرج) قرب سرايا الحكومة حيث كان العلم القديم قد جرى استبداله بالعلم اللبناني الجديد منذ الافراج عن المعتقلين، فالى دائرة الشرطة... كل ذلك وسط الأهازيج وإطلاق الرصاص في الفضاء والهتافات، والناس تلوّح بالأعلام، وقد استنسخت العلم الجديد حريراً وخاماً وورقاً!
حول مجلس النواب، حاول عسكر فرنسي منع الجماهير من إنزال العلم القديم ورفع العلم الجديد مكانه. لكن محاولته باءت بالفشل.
قليلون سمعوا خطبة رياض الصلح من شرطة منزله لما وصل اليه لتستقبله زوجته وبناته بدموع الفرح، غير أن ما بقي في الذاكرة العامة من الخطاب الحماسي هو "اننا عدنا كما ذهبنا، متحدين، منتصرين في الدفاع عن الاستقلال".
سائر الوزراء ذابت مواكبهم في تظاهرات الفرح. وما ان وصلوا الى منازلهم وصافحوا مستقبليهم حتى كانوا يُستدعون من جديد الى "القصر" في القنطاري لاجتماع عاجل مع الرئيس لاطلاعهم على حصيلة الاجتماع مع الجنرال كاترو.