"إنّ لبنان بلا جبران تويني أضيق أفقاً، وأشدّ بؤساً، مما كان بالأمس"، بهذه الكلمات وصف ناشر صحيفة "السفير" طلال سلمان اغتيال جبران تويني في الـ12 من كانون الأوّل 2005. ثوانٍ قليلة كانت كفيلة بالقضاء على قلم الحرية، وسقوط الكلمة مضرجة بدمائها؛ واليوم تعود ذكرى 18 عاماً على هذا التاريخ المشؤوم.
إنّه شرف لكل كاتب وصحافي أن يكتب عن عمالقة الصحافة اللبنانية بعدما دفعوا أثماناً باهظة لسياستهم. شظايا اغتيال جبران أصابت الصحافة بأكملها فأدمتها، لكن لا شكّ في أن ديك "النهار" لا يزال يصيح، واليوم نعيد ذكرى جبران بأقلام كتّاب العرب والغرب...
مؤسس جريدة "السفير" طلال سلمان، في مقال بعنوان "صحافة لبنان تنزف: جبران تويني شهيداً..!"، كتب في 10 كانون الأول 2005:
"بعدما شرق القراء بدمع اللوعة على الدم المهدور ظلماً وغيلة جاء الغضب عارماً: أية مخيلة شيطانية هذه التي تفترض، بعد، أن الرد على الكلمة يكون مفحماً إذا هو لجأ إلى اغتيالها، متناسياً أن القلم الذي يجرحه رصاص المقيمين في ليل الغربة عن العصر إنما يكتسب وجاهة استثنائية، إذ تغطي فداحة الجريمة على ما يفترض أنه خطل في رأي الكاتب، فيسقط المجرم بينما يتعاظم القلم محصناً بحق الاختلاف باعتباره الطريق إلى الرأي الأكثر وجاهة وصحة".
الرسامة والشاعرة والصحافية لور غريّب كرباج، كتبت مقالاً تحت عنوان "قافلة الصحافيين الشهداء بدأت عام 1915 ثم كرّت السبحة!" في 12 كانون الأول 2010، ومن أبرز ما جاء فيه:
"قبل سنتين من اغتياله في 12 كانون الأول عام 2005، سأل أحد الصحافيين جبران تويني عمّا يعتقده في الموت، في موته تحديداً. يومذاك، لم يكن من الصحافي والسياسي إلا أن ضحك، مجيباً أنه لا يعرف، وأن المشكلة ليست في الطريقة التي سيموت فيها، فالقتيل لا يشعر بأزيز الرصاصة وهي تخترق جسده، يموت فحسب. قبل أن يختتم بجملة مفادها أنّه يرّحب بالموت إذا ما أتاه، لأن الموت مشيئة الله. على الأقلّ، سيموت وضميره مرتاح".
الكاتب والمستشار الاقتصادي السعودي حسين شبكشي كتب مقالاً بعنوان"في ذكرى جبران" في 12 كانون الأول 2022". وفي ما يأتي مقتطف ممّا جاء فيه:
كان جبران تويني على قناعة تامّة وحقيقية بأنه في ساحة حرب مع أعداء بلاده وأعداء فكرة لبنان التي تربّى عليها وعاش لأجلها ويحلم بها، وأن سلاحه الوحيد في هذه المعركة المجيدة هو القلم والكلمة التي يسطّرها. ولم يأبه لنصائح أصدقائه وزملائه ومخاوفهم ومطالبتهم له بأن يخفف من حدّة ما يطرحه، فيجيبهم: "مستحيل، هذه معركة وجود". وتحوّلت معه "النهار" إلى المنبر اللبناني الأول والأهمّ وصوت فئة الشباب الوطني بمختلف أطيافه وطوائفه لمواجهة طيور الظلام وأعداء البلد.
الشاعر، الصحافي، الناقد الأدبي والأستاذ الجامعي، عقل عويط، كتب مقالاً بعنوان "يا حرية" في 12 كانون الأول 2010. وهذا جزء ممّا كتبه:
"لقد اغتيل جبران لأن الحرية الجارحة كانت قضيّته. وإذ أتذكّره كلّ يوم، لا في مثل هذا التاريخ فحسب، فليس على سبيل الرثاء والتفجّع، أو من باب المجاملة، وإنما لأنّي أعتقد أن هذه الحرية التي كانت قضيّته هي عندي نظام قيم وحياة، وعمل متواصل ودؤوب، وبحث عن الأمل والضوء، وليست محض ذكرى وشعار.
الجريدة التي أسّسها جدّه جبران، ورفع والده غسان لواءها ورسّخ أقدامها مع زملائه الفرسان والطليعيين، ورسم – هو جبران – لها أحلاماً وآفاقاً، تواصل حمل لوائها ابنته نايلة والزملاء والرفاق والقرّاء، هي الجريدة التي تنشّأت حياتي على قراءتها والانتماء إليها أباً عن جدّ، لأنها تؤمن بقضية الحرية وتلتزمها وتدافع عنها، ولأنها تقدّس الآخر وتطالب بوجوده وتقرّ بمكانته، وترفع لواء الحداثة والسؤال والنقد والتنوّع والتمرّد والتغيير، ليس في الثقافة والأدب والفن فحسب، وإنما أيضاً في شؤون العقل والوجود كلّها، لأنّ الحرية كلٌّ لا يتجزأ".
مقتطفات من مقال لبسام منصور في عدد "يونيسكو" بعنوان "الرجل الذي كان كالبرق"، عام 2008:
عندما ذهبت لزيارة مقرّ صحيفته في تموز 2005، برفقة زملاء من اليونسكو، أثرت إمكانية وجود تعارض بين عمله كصحافي ودوره كنائب، سألته آنذاك فأجاب: "لا يوجد صراع على الإطلاق... كصحفي، أهدف إلى كتابة الحقيقة. وكوني نائباً في البرلمان، أهدف إلى قول الحقيقة”. لقد كانت إجابة صادقة، مليئة بالبراءة والشجاعة التي ميّزت هذا الرجل. وفي مواجهة عالم ممزّق بين الخير والشر، والحب والكراهية، كان يستمتع بتخيّله خالياً من التعاملات والمكائد السياسية. وفي المقام الأول من الأهمية، رفض الانحناء أمام أصحاب السلطة، أو الاستسلام في مواجهة السياسة الواقعية. وبنفس حماسة الشباب التي ترفض متابعة الجمهور، على الرغم من مرور الوقت، عندما عاد عام 1993، أنشأ ملحقاً شبابياً أسبوعياً لجريدة "النهار". وأعلن في افتتاحيته أنها ستكون "منصة مستقلّة للكتّاب الشباب ذوي التفكير الحرّ"، كما أعلن أن الملحق يهدف إلى أن يكون "مرآة الحياة اليومية لجيل كامل لم يستمع إليه أحد لا في الماضي ولا في الحاضر". في عام 1990، أصبح جبران تويني عضواً نشطاً في الاتحاد العالمي للصحف (WAN) ومستشاراً لشؤون الشرق الأوسط لرئيس الاتحاد العالمي للصحف (WAN). وكان أيضاً عضواً في صندوق تنمية حرية الصحافة".
بدوره، الصحافي أنطوني شديد لصحيفة "واشنطن بوست" بمقال في 4 آذار 2006، يستذكر لحظات اغتيال جبران، فيقول:
" في الليلة التي قُتل فيها جبران، خاطب غسان تويني الصحافيين المصدومين في غرفة التحرير، وأضاف: "هذا ليس وقت الدموع، بل وقت العمل". "ليعمل الجميع. يجب أن تصل صحيفة النهار إلى أكشاك بيع الصحف غداً". ثم رأى العنوان المقترح لعدد اليوم التالي، وهو وصف عادي للسيارة المفخخة، وغيره برسالة جديدة: "جبران لم يمت، والنهار ستستمر".
كان جبران آخر أبناء غسان الباقين على قيد الحياة. لقد فقد ابنته نايلة البالغة من العمر 7 سنوات بسبب مرض السرطان، وهو المرض الذي أودى بحياة زوجته الشاعرة نادية تويني. وقد قُتل ابنه مكرم، في حادث سيارة في فرنسا عام 1987.
وفي جنازة جبران، تحدّث تويني إلى المشيّعين، وقال "أدعو اليوم ليس للانتقام أو الكراهية أو الدم". "أدعو إلى أن ندفن مع جبران كلّ الأحقاد وكلّ الخلافات. وأدعو كلّ اللبنانيين، مسلمين ومسيحيين، إلى التوحّد في خدمة لبنان الكبير، في خدمة قضيّته العربية".
مقال "الغارديان" للصحافي لورانس جوفي، بعنوان "صحافي لبناني تحدّى الهيمنة السورية في بيروت" في 13 كانون الأول 2005، وممّا جاء فيه:
"من المؤكّد أن تويني لعب دوراً قيادياً في الأحداث التي أعقبت مقتل الحريري، والتي أدّت في نهاية المطاف إلى مغادرة القوات العسكرية السورية لبنان في نيسان، بعد 29 عاماً. ومن مكاتبه الأنيقة المطلّة على ساحة الشهداء في بيروت، كان يستمتع بالجلوس بجانب الحلبة للحشود التي تجمعت بشكل عفويّ للمطالبة برحيل سوريا.
في الواقع، كان رئيس التحرير قد ثبّت مواقفه منذ فترة طويلة على سارية المعارضة. وفي وقت سابق، كان قد عاش الحرب بشكل مباشر: عندما كان في الثامنة عشرة من عمره، أصيب برصاصة في ساقيه على يد مقاتلين فلسطينيين. وبعد مرور عام اختطفته ميليشيات مسيحية. وفي عام 1989، دعم علانية تحالف العماد ميشال عون المناهض لسوريا. ولكن عندما أطاحت القوات السورية والقوات المرتبطة بها بعون، فرّ تويني إلى باريس. عاد عام 1993 وانضم إلى جريدة "النهار" كصحفي.
وأشهر انتقاداته جاءت على شكل رسالة مفتوحة في آذار 2000 إلى بشار الأسد. وكانت القوات الإسرائيلية قد غادرت للتوّ جنوب لبنان بعد 21 عاماً؛ وقال تويني إنه لم يعد هناك أيّ مبرّر للوجود السوري في لبنان. وطالب بعودتهم وأثار القضيّة الحسّاسة للمواطنين اللبنانيين المحتجزين في سوريا، وتحدّى دمشق للسماح بإجراء انتخابات حرّة. ومن غير المستغرب أنه صنع أعداء".
أحبّ جبران تويني بلده حتى الاستشهاد. قصته لا تزال حيّة عند الشيوخ والشباب. وللأسف بات موته يتكرّر بأسماء مختلفة منها فرح عمر، ربيع معماري، وعصام عبد اللّه، ليكون مصير كلّ صوت، كل قلم وكلمة حرّة، الاستشهاد...