اليوم، فَقدَ لبنان مربّيًا وقائدًا وشخصية وطنية من الطراز الرفيع لم يترك سوى سيرة ومسيرة عطرة.
مَن لم يسمع بالدكتور وديع حدّاد، وهو الذي تبوّأ مناصب عليا مميَّزة وعمِل بأمانة فارتقى من موقع مسؤوليّة إلى آخر في خدمة التربية ولبنان حتّى في أحلك الأيّام.
وصفه صديقه الشاعر اللبنانيّ هنري زغيب قائلًا: "في شخصه متواضعٌ كالبنفسج، في شخصيَّته مُكتَنِزٌ كالسنابل، في تشخيصه حازمٌ كالحقيقة." كم نفتقر لصفات الكبار هذه في لبناننا اليوم: متواضع وقويّ وحازم!
أول وظيفة عامَّة تولّاها كانت تعيينه مستشارًا لوزير التربية الدكتور نجيب أبو حيدر الذي قال له آنذاك: "أَنا صاحب المعالي وأَنت الوزير"، لكن وديع حداد أثبت على مرِّ السنين أنَّ خبرته وطموحه وتفانيه في خدمة لبنان والتربية عامَّةً هي أوسع من أن يُقيّدها دوره كمستشار وخبير في التربية.
فمن رئاسة "المركز التربوي للعلوم والرياضيّات" لدى الجامعة الأَميركيَّة في بيروت، انتقل ليؤسِّس ويترأّس "المركز التربويّ للبحوث والإِنماء" تلبيةً لطلبٍ من الرئيس سليمان فرنجية، ووضع خطّة تربويَّة مستدامة مبنيَّة على الأبحاث والخبرات العالميَّة النطاق.
ولما اشتدّت الحرب في لبنان وأُقفلت المدارس قسرًا، كان سبّاقًا في مجال التربية إذِ ابتكر أول تعليم عبر الشاشات محوِّلًا استوديوات "تلفزيون لبنان والمشرق" إلى مدرسة عن بُعد.
لكن الأحوال والأهوال إبّان الحرب اضطَرّت الدكتور حداد إلى مغادرة لبنان متوجِّهًا إلى الولايات المتّحدة الأميركيَّة، حيث عمل في البنك الدولي وانتقل فيه من منصب إلى آخر: مدير الشؤُون التربوية، نائب الأَمين العام، مندوبَ البنك الدوليّ لدى الأُمم المتحدة وسائر وكالاتها وبرامجها. ثمَّ تولّى مسؤُوليّات كبرى على مستويات دوليّة جعَلَتْه مَرجعًا أَول في شؤُون التربية والتخطيط، فوضع النسخة الأُولى لسياسة البنك الدولي التربويّة، وأَشرف على تنفيذ خططها في عدّة دول. هذا غيضٌ من فيض عطاءات الدكتور وديع حداد. والجدير ذكره أنّه في أيّ منصب أمميّ أو دوليّ أو سياسيّ قد تقلّده، لم يُساوم على مبادئ الصدق والأمانة والشفافيّة النابعة من إيمانه.
وانطلاقًا من خبرته في البنك الدولي، أسَّس حركة "التربية للجميع" وترأّس مؤتمرًا تربويًا عالميًّا في تايلندا يُعدُّ منعطفًا تربويًّا عالميًّا إذا إنَّ الرؤى التربويَّة والإنمائيَّة التي أُطلِقَت يومذاك ما تزال قيد التداول والتطبيق اليوم.
رغم هذه النشاطات والنجاحات كلّها، لم ينسَ وطنه لبنان، وعندما اختاره الرئيس اللبنانيّ أمين الجميِّل ليشغل منصب مستشاره الأول للأمن القوميّ، لبّى الدعوة وعاد إلى بيروت وكان يُعاون الرئيس ويُرافقه في زياراته الخارجيَّة الرسميَّة، واشترك في مؤتمَري الحوار الوطنيّ في جنيف ولوزان. ومحصَّلة تجربته في السياسة كانت كتابه المميَّز "لبنان: سياسات الأبواب الدوّارة".
أمّا من جهة الخدمة في الكنيسة، فترأس وديع حداد المجمع المعمدانيّ الإنجيليّ من سنة ١٩٦٨ إلى ١٩٧٠، وكان أول رجل علمانيّ يتولّى هذا المنصب.
وسنة ١٩٩٧، استعانت به الهيئة الإداريّة للجمعيَّة اللبنانيّة للإنماء التربويّ والاجتماعيّ بهدف نقل خدمات الإرساليّة وممتلكاتها إلى اللبنانيّين، فكان مهندس تأسيس هذه الخدمة، وأرسى مبادئ الحوكمة والإدارة في الجمعية التي تحمل اليوم اسم "ثمار". كما وضع خطةً طويلة الأمد لنموّ الجمعيّة واتساع خدمتها في لبنان ومنطقة الشرق الأوسط.
بعد تقاعده سنة ١٩٩٨، أنشأ مؤسَّسته الخاصّة “Knowledge Enterprise” فكانت منارة دوليّة كبرى للتخطيط التربويّ. يذكر مقال نشرته صفحة "أسواق العرب" إنجازات هذه المؤسّسة والدُول التي ساهمت في تطوير التربية فيها:
• تولّي التصميم والإدارة في برنامجٍ لوضع استراتيجيات تربويّة في عدّة دولٍ، بينها الأَرجنتين والأُردن وجزر الباسيفيك وباكستان والفيليبين وتايلندا.
• توجيهات لوزراء التربية في الدول العربيّة وجزُر الباسيفيك الجنوبيّة، وتدريب مسؤُولين في البنك الدوليّ على مشاريع تربويّة جديدة.
• تولّي التصميم والإشراف على إِدارة برنامج إِلكترونيّ على شبكة الإِنترنت يُوَجِّه واضعي السياسات التربوية إِلى تجهيز وسائط تكنولوجية تَرفُد الأَهداف التربوية.
• تولّي التصميم والإِشراف على مشروع وطني جماعي في أَميركا اللاتينية طوَّر رقْميًّا مواد العلوم والرياضيات في المدارس الثانوية.
• تَوَلِّي مسؤُولية مستشار المدير العام للأُونسكو في الشؤُون التربوية، ما كرَّسه مرجعًا أَول للتنمية البشريّة.
وقد نعته امس الهيئة الإداريّة لـجمعيّة "ثمار"، وقدمت التعازي إلى "هدى، زوجة الراحل الفاضلة التي خدمته بكلّ أمانة وإخلاص، وإلى ابنتَيه ساندرا ولُبنى وشقيقته سعاد، وإلى العائلة والأقرباء الأحباء".
وقالت: الحق يقال إنَّه أشبه بمنارة تُرى أشعّتها من بعيد فتؤنس وتَهدي. إنها مسيرة عمر فريدة. فالأثر والإرث أبلغ من أن يحصرهما وصف. وإذا تساءلنا: ما سر هذا الرجل الفذ؟ فخير إجابة هي إيمانه واتكاله على الربّ وعزمه على الاقتداء بسيّده في المبادرة إلى الخدمة بغيرة وغيريّة قلَّ نظيرهما. ألا يُذكّرنا هذا بقول سليمان الحكيم الصادق في سفر الأمثال ٢٢: ٢٩: "أَرَأَيْتَ رَجُلاً مُجْتَهِدًا فِي عَمَلِهِ؟ أَمَامَ الْمُلُوكِ يَقِفُ. لاَ يَقِفُ أَمَامَ الرَّعَاعِ!"