سمير صبّاغ
مع اشتداد حدّة المعارك والاستهدافات الإسرائيليّة على طول القرى الحدوديّة، نزح العديد من العائلات الجنوبيّة في اتّجاه منطقة النبطيّة التي باتت تضمّ، حتّى اليوم، زهاء 24 ألف نازح. تلك العائلات تركت منازلها وأرزاقها خلفها هرباً من همجيّة آلة العدوان الإسرائيليّة. إلّا أنّ استمرار الحرب لأكثر من 5 أشهر قلب حياتها رأساً على عقب، فالتقديمات والمساعدات، الحكوميّة والحزبيّة، بالكاد تكفي لتأمين الحدّ الأدنى من المقومات الحياتيّة الأساسيّة. فيما أغلب النازحين بات "يجاهد" في سبيل التأقلم، إن في مكان عمله أو دراسته، حتّى أنّ بعضهم بات يبحث عن عمل "موقّت"، لكنّ المشترك بينهم جميعاً تَوقهم إلى العودة والاستقرار مجدّداً في قراهم، مع العلم أنّ منازل بعضهم تدمّرت. "النهار استعطلت أوضاع النازحين إلى منطقة النبطيّة، فما الذي قالوه عن تلك التجربة وما يرافقها من صعوبات؟
تخيّل يوسف الزين (11 عاماً)، الذي لم يعايش حرباً في حياته، أنّ رحلة نزوح عائلته من بلدة الخيام قبل أربعة أشهر ستكون رحلة "استجمام بعيداً من الخطر الذي عايشته لشهر كامل مع عائلتي"، لكنّه سرعان ما اصطدم بالواقع الجديد بقوله: "المنزل الذي انتقلنا إليه في النبطية لا يشبه بيتنا، فسقفه لا يحمي من المطر، وحديده ظاهر وتتساقط منه الحجارة، لا أسرّة فيه ولا مفروشات، افترشنا الأرض ونمنا أكثر من 6 أشخاص في غرفة واحدة".
أمّا مريم وهبي النازحة مع عائلتها ووالدتها وعائلة شقيقتها من بلدة الخيام الحدوديّة فقامت باستئجار منزل في منطقة النبطيّة أوّل شهرين من الحرب، "كنّا ندفع 150 دولاراً شهرياً لصاحب المنزل الذي كان يعلم أنّنا نازحون، ورفض أن يوقّع لنا عقد إيجار لأنّه لن يستطيع الالتزام بنفس قيمة الايجار، إذا طالت مدة الحرب حسب قوله، فقمت بالبحث عن منزل ولم أجد أي منزل بسعر مقبول يراعي كوني موظّفة حكومية وكون زوجي موظّفاً في شركة خاصّة".
وعبّرت بحرقة عمّا واجهته يومها من مصير أسود" فوالدتي مريضة، ولا نملك مالاً كافياً لتغطية تلك المصاريف المستجدّة نتيجة الحرب، كنّا نملك منزلاً في الخيام وما كنّا تركناه لو لم يكن مواجهاً مباشرة لمواقع العدوّ. ولكن لطف الله بنا حينها، حيث قام قريبنا بتقديم منزل قديم يملكه في مدينة النبطيّة (حيّ التعمير) حالته سيّئة وضيّق، لكن ذلك كان أفضل الممكن، فهو مؤلّف من غرفتين ومطبخ وباحة خارجيّة، مع العلم أنّنا أربع عائلات".
في المقابل كان محمّد قليط قد تدبّر أمره بسهولة أكثر، فهو ترك منزله في بلدة كفركلا في الشهر الأوّل من الحرب مع والدته وشقيقته نازحاً إلى منطقة النبطيّة حيث "قام أصدقائي في حركة "أمل" بتأمين منزل مفروش بالقرب من السوق التجاريّ تملكه عائلة "نبطانيّة" تقيم خارج لبنان، فانتقلنا إليه تاركين خلفنا أرزاقنا وأعمالنا، فكنّا نظنّ أنّها فترة قصيرة ونعود، لكنّنا اليوم ندخل شهرنا السادس، ولا نظنّ أنّ عودتنا قريبة، ولو من خلال هدنة، فمنزلنا تهدّم بالكامل".
مساعدات محدودة والنازح يعاني!
لا شكّ أنّ طول أمد الحرب حوّل العديد من النازحين إلى عاطلين عن العمل لأنّ أغلب القاطنين لما كان يُعرف بـ"منطقة الشريط الحدوديّ" إمّا يعمل في زراعة التبغ والزيتون والمونة او يمتلك أعمالاً تجاريّة صغيرة، فيما غير القاطنين هم من سكان العاصمة بيروت أو مغتربين، على عكس منطقة النبطيّة التي تضمّ ثقلاً تجاريّاً وسكّانيّاً ضخماً، كونها مركز المحافظة السادسة. فهل غطّت المساعدات الحكوميّة والحزبيّة العجز المادّيّ الذي خلّفه النزوح قصراً؟
تعتبر مريم وهبي نفسها محظوظة نسبيّاً فـ"أنا معلّمة فنون في مدرسة رسميّة، وبالتالي راتبي لم يتوقّف وإن كان عملي الإضافيّ في الدورات الاجتماعيّة قد توقّف، لكنّ ابني لا يعمل وابنتي معلّمة توقّفت عن العمل، وكذلك الأمر بالنسبة إلى شقيقتي وزوجها اللّذين باتا بلا عمل، وهما كانا يعملان في الأرض والمؤونة".
وهنا تستطرد حول كيفيّة تركيز أمورهم قائلة: "تدبّرنا المنزل بلا إيجار فأعطتنا بلدية النبطيّة اشتراكاً كهربائيّاً فاتورته مخفّضة بنسبة 25 في المئة، ولكنّ كلفة التركيب وقعت على عاتقنا، كذلك كلفة تركيب الإنترنت ومدّ المياه".
ولفتت إلى أنّها" حصلت من محافظة النبطيّة على عدد من الفرش والأغطية، بالإضافة إلى مساعدات غذائيّة غير دوريّة من مجلس الجنوب".
ويتشارك قليط مع مريم في "انقلاب" حياته المهنيّة "أنا مزيّن شعر رجّاليّ، لم أستطع نقل عدّتي بأكملها من كفركلا، ولم أوفّق في العمل في صالونات النبطيّة، لكنّي اليوم أجد نفسي مضطرّاً للعمل من المنزل لتغطية مصاريفنا. فالمنزل قدّمته عائلة مشكورة فيما حصلنا على تخفيض الاشتراك الكهربائيّ بنسبة 30 في المئة. كما أنّنا نحصل على مساعدة ماليّة من "الحزب" (حزب الله) ويمكننا التواصل مع أحد مسؤوليه للحصول على مساعدة صحّية مجّانيّة ضمن مؤسّساتهم، في حال احتجنا إلى ذلك". وهنا يؤكّد أنّ "المساعدات المقدّمة غير كافية مقارنة مع حياتنا السابقة، فنحن تركنا أرزاقنا وحياتنا ونزحنا لكنّنا مضطرّون للتأقلم مع الوضع حتّى انتهاء الأزمة".
وفي هذا الإطار يعتبر النائب هاني قبيسي من موقعه كمدير لمكتب الرئيس نبيه برّي في الجنوب أنّه" إذا قارنّا ما تحمّله النازح وما قامت به إسرائيل من اعتداءات على أرزاقهم، مع ما قُدّم له فهو يُعتبر لا شيء يُذكر. الحكومة حاولت عبر مجلس الجنوب تقديم بعض المساعدات بالإضافة إلى بعض التضامن من العائلات مع الوافدين من القرى الحدوديّة، فالخروج من المنزل مسألة صعبة جدّاً".
ودعا الحكومة إلى "تحمّل مسؤوليّذتها في هذا الملفّ فهي قامت بشيء بسيط جدّاً مقارنة مع حجم المعاناة، فمن تهجّر على ضفّة العدوّ أُسكن في الفنادق، فيما من تهجّر من اللبنانيّين تُرك في الشوارع".
ولفت إلى أنّهم في حركة "أمل" يتعاطون مع ملفّ النازحين من زاوية التكافل الاجتماعيّ من خلال شبابنا وبلديّاتنا "فهم قدّموا شيئاً يسيراً من خلال تأمين بعض المنازل والمساعدات، لكن رغم تدخّلنا فالوضع الحاليّ غير كاف. النازحون تركوا أرزاقهم على امتداد الحدود ولا شيء يعوّضهم سوى حصولهم على حاجاتهم بشكل كامل، وهذا أمر لا يحصل. الجميع مقصّر والنازح يعاني والمطلوب علاجات سريعة".\
مركز تطوعي لتعليم النازحين في كفرجوز
التعلّم وصعوبة الاندماج!
معاناة النازحين لا تقتصر على المأكل والمسكن والعمل، فبين هؤلاء تلامذة تركوا مدارسهم والتحقوا بمدارس جديدة أو انتقلوا إلى مرحلة التدريس عن بعد، فهل لدينا المقوّمات الحقيقية لتحقيق الاندماج الناجح إن كان للأستاذ أو للتلميذ؟
نور حميّد انتقلت من بلدتها ميس الجبل إلى منطقة النبطية مع عائلتها والتحقت بـ"ثانوية حسن كامل الصباح الرسمية" في الشهر الأوّل من الحرب، لكنّها علّقت لـ"النهار" على تجربتها بالقول: "أنا أنتمي إلى جيل لم يعش حرباً ولا يعرف معنى النزوح. بداية توقّعت الانتقال لمدّة شهر كحدّ أقصى لكن مع دخولنا الشهر السادس اكتشفت أنّ القصة ليست لعبة وصعبة جدّاً".
أمّا في مسألة التعلّم فهي لم تنسجم مباشرة في الأجواء الدراسيّة في الثانوية الجديدة "فلولا جهود الأساتذة والمدراء هنا لما كنّا تأقلمنا وتمكّنّا من متابعة عامنا الدراسيّ، وهذه التجربة لن أنساها، فهي قد تتكرّر وعلينا التحضّر لهكذا تجارب دوماً".
من جهته، يعتبر يوسف الزين أنّ مدرسته القائمة في بلدة الخيام "أجمل بكثير من مبرّة الإمام الرضا (مؤسّسات السيد محمّد حسين فضل الله) التي التحقت بها نتيجة الأوضاع، فأنا اليوم أجد نفسي مضغوطاً، ربما الدروس هي نفسها لكنّني لا أجد نفسي مرتاحاً لكي أتأقلم مع الدراسة مجدّداً في ظلّ ما يجري حولنا".
وفي السياق، كشف الأستاذ الثانويّ حيدر حميّد النازح من بلدة ميس الجبل والملتحق بثانويّة الصبّاح الرسميّة في النبطية أنّ "العملية التعليميّة اليوم تتمّ عبر الـ"أونلاين" كونهم منتشرين على أصقاع الأرض اللبنانيّة بفعل اشتداد القصف على بلدتنا ونزوح الأهالي منها. وعليه نحن نواجه صعوبات تعليميّة جمّة، فلا مقوّمات للتعلّم عن بعد، التلاميذ لا يملكون الإنترنت دوماً لأسباب تقنية فيما إمكانات آخرين لا تسمح بتأمين كلفة الإنترنت، فحتّى الأساتذة يعانون من الصعوبات نفسها".
ولفت إلى أنّهم "مقاومون بالعلم ويضطرّون أحياناً إلى ملاحقة التلاميذ إلى منازلهم لإنجاز الأهداف التعليميّة بشتّى الوسائل، ولكن هذا لا يعني أنّ التجربة ناجحة، ويمكن التعويل عليها لضمان المستوى التعليميّ".
العودة قد لا تكون سريعة!
مع انتهاء حرب 2006 لن ينتظر أهل الجنوب كثيراً حتّى يعودوا إلى قراهم وبلداتهم رغم تضرّر الطرق والجسور، لذلك من المتوقّع أن تكون رغبة نازحي القرى الحدوديّة بالعودة سريعاً، لكنّ توسّع رقعة الدمار وضعف إمكانات الدولة اللبنانيّة العاجزة أساساً في ملفّ المساعدات يطرح تساؤلات جمّة حول سرعة العودة وترافقها مع خطّة إعادة الإعمار.
لا يعتبر قليط أنّ عودته ستكون سريعة، "منزلنا تهدّم وهناك خسائر ماديّة كبيرة لا يمكن تعويضها بسهولة، لذلك أظنّ أنّني سأنتقل أوّلاً قبل عائلتي لتأمين ظروف عملي، والاستحصال على منزل في قريتنا لن يكون سهلاً في ظلّ ما أسمعه عن حجم الدمار، ولكن بالتأكيد أريد العودة بأسرع وقت للاستقرار في بلدتي كفركلا مجدّداً".
كذلك تعتبر وهبي أنّ "العودة تحتاج إلى ضمانات كثيرة، فحياتنا ستنقلب أكثر بعد الحرب. منزل أهلي لا يصلح للسكن ومنزلي قد يكون كذلك. وعليه فكيف سنعود إلى النظام الذي كنّا نعيشه قبل الحرب؟ الأكيد حياتنا لن تشبه الحياة السابقة، ولا الاستقرار سيتحقّق سريعا، لكنّنا لن نتنازل عن مطالبنا بسرعة عودتنا إلى قرانا حتماً".
صحيح أنّ أهل الجنوب اعتادوا مغادرة منازلهم منذ العام 1976 ولكنّهم كانوا دوماً يعودون بسرعة بمجرّد وقف إطلاق النار، غير أنّ طول مدّة هذه الحرب التي لا تشبه الحروب السابقة جعلت التساؤلات عن إمكان توقّفها كثيرة، ناهيك عن الخوف من توسّعها لتطال منطقة شمال الليطانيّ، لكنّ الجواب الحقيقيّ يبقى في قول يوسف الزين بكلّ بساطة: "أتمنّى العودة سريعاً كي اتسلّق الشجرة التي اعتدت من صغري تسلّقها أمام منزلي".