في عيد الأم قلوب تبكي ألماً وحرقة، لكنها صابرة، بالرغم من الفرح الذي قد يعمر حياة آخرين.
تعيش والدة الصحافية الشهيدة فرح عمر أيامها بثقلٍ رهيب، دموعها لا تفارق صوتها، فيزداد جرحُها نزفاً، وتعود المشاهد لتقتحم لحظات سكونها وصمتها.
في هذا اليوم، ثمة أمّهات ينتظرن سماع أصوات أحبائهن، وهن متلهّفات لضمّ أولادهن وشمّ "ريحتهم"، ويحترن في السُبل التي سيمضين فيها، وخلفهنّ أبناؤهنّ الذين تركنهم تحت التراب. قاسية هي تلك اللحظات، ومرهقة حدّ اليأس؛ فكيف لأمّ أن تُحرَم من أصوات أولادها؟ وكيف لأمّ أن تدفن بيديها ابنتها التي ربّتها بدموع عينيها؟ وكيف لأمّ أن تعيش، وتحت التراب ترقد روح الروح؟
في هذه السطور تحيّة لكلٍّ من والدة فرح عمر، ووالدة الطفل يوهان.
"خسارة كبيرة. 4 أشهر مرّت على استشهاد ابنتي فرح، وكأن عمراً بأكمله مضى على فراقها". بهذه الكلمات تتحدّث ميرفت عبد الحسين عن حرقة الخسارة والموت. يصعب عليها أن تتأقلم مع هذا الواقع الجديد، وهي تشعر بنقصٍ في أمومتها، ولم يبقَ لديها سوى ذكريات تضمّها إلى ذاكرتها جيّداً خوفاً من فقدانها.
تُشكّل دموعها طريقة للاعتراف، تخذلها طوال الوقت: "فقدان الضنا موجع جداً. فقدتُ قطعة من قلبي. ربّيتها 25 عاماً. دعمتها ورافقتها بكلّ خطواتها. رأيتها تكبر أمامي، وفجأة خسرتها إلى الأبد. لا شيء يعزّيكِ على هذه الخسارة. لا شيء يصبّر الأم على خسارة أولادها. كله كذب الوجع: "بضلّ جوّا وبوجعك كتيرررر"".
تستذكر ميرفت عجقة فرح في عيد الأم بقولها "كانت أوّل من يعايدني في هذا اليوم. تعانقني، وتعايدني بفرح، وبابتسامتها التي لا تفارق البيت. كانت تختار لي الهدايا بإتقان. كانت تريد أن تفرحني، وكانت تنجح دائماً في ذلك. كانت تقول لي "سامحيني، ولكن لا يمكنني أن أنشر صورتي معك على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي احتراماً لمشاعر أصدقائي الذين فقدوا أمّهاتهم". كنتُ سعيدة بطريقة تفكيرها. كانت تفكّر دائماً بغيرها لا بنفسها فقط".
تتابع: "كانت فرحة المنزل. كانت سنداً لكلّ أفراد العائلة. شخصيتها القوية والمندفعة جعلتها مميّزة واستثنائيّة. وجعها يبقى في القلب إلى الأبد، ولا شيء يخفف من ثقل هذا الغياب". وتوضح قائلة: "صحيح أنك تثابرين في الصمود، لكن في النهاية عليك أن تقفي من أجل عائلتك وربّ المنزل، وأن تكوني سنداً لهم. ولكن في داخلي انكسارٌ وضعفٌ ووجعٌ لا يُداويه شيء. سأقولها بصراحة "أنا متت من يوم ما ماتت فرح". كيف لي أن أصبّر باقي الأمهات، وأنا أحتاج لمن يصبّرني على فراق ابنتي. صدّقيني يا بنتي "كتير صعبة"".
من فرح إلى يوهان، ابن الـ8 سنوات، الذي توفّي بعد غرقه في أحد المسابح في منطقة جبيل. تحمل والدته الإعلامية باتريسيا قسيس وجعها وتمضي. تحاول جاهدة أن تواصل معركتها مع هذه الدنيا بكلّ فصولها. في قلبها وجع لا يُضاهيه وجعٌ، ويتمٌ يقتات على داخلها بصمت. لا تتذمّر. "هذه حكمة الله" تقول، ومع ذلك تعرف أن الموت كان قاسياً وظالماً، وكتب نهاية حزينة لطفلها الصغير.
بصوتٍ خافت تُعيد النّظر إلى جرحها المفتوح. لا شيء يُمكن أن يوقف هذا النزيف الداخليّ، تقول لـ"النهار" إن "هذا الوجع لا يختفي أبداً. يبقى موجوداً في كلّ اللحظات وبكلّ تفاصيل حياتي. نحن نتعالى عليه لأن الحياة تستمرّ، ولديّ مسؤولية ابنتي وعائلتي، ولكن في أعماقي أعرف أن وجعي يبقى حاضراً معي، ونبكي معاً في لحظات الانفراد والسّكون".
تعود الذكريات الموجعة في مثل هذا اليوم. تعود كلمات يوهان التي كان يقولها لباتريسيا. تستذكر هذه اللحظات: "يللا قومي يا أحلى إم بالدني. كان يردّدها كل يوم، وليس فقط في عيد الأم. كان يقول لي "أنا ما بحبّ شوفك زعلانة. أنا بدّي ضلّ شوف ضحكتك"".
تعترف باتريسيا بصراحة: "كتير صعب، الوجع بعيش جوّاتك. لا شيء يضاهي صعوبة هذا التناقض بين أمّ خسرت ابنها، وبين أم تربّي ابنتها التي خسرت شقيقها. ابنتي التي تبلغ من العمر 14 عاماً، وهي تحاول أن تملأ هذا الفراغ الذي أحدثه غياب يوهان. لذلك لا يمكنني التخلّي عن هذه المسؤولية. لديّ ابنتي التي هي بحاجة إليّ، ولديّ وجعي الذي أحمله في داخلي. أحاول أن أبقى قويّة وصامدة من أجل عائلتي، ما نمرّ به بعد غيابه موجع جدّاً".
سنة و8 أشهر على غياب يوهان، والجرح ما زال ينزف، والفراق يزداد صعوبة وقساوة. موحش هذا الفراق. لا تخفي باتريسيا ذلك، "أضعف وأبكي، ثمّ أمسح دموعي وأكمل حياتي. أتذكّر دائماً كيف كان يوهان يريد أن يراني مبتسمة. لكلّ قصّة وجع، ولكلّ موت قساوته على أهل البيت، لكنني أقول للأهل "فكّروا كيف ولادكم بحبّوا يشوفوكم. الصورة يللي بحبّوا يشوفوها ليكونوا هنّي كمان مبسوطين مطرح ما هنّي".
هكذا هي الأمومة، تحمل أوجاعها وثقل المسؤوليّات وصعوبة الموت وتمضي إلى الأمام. جزءٌ منها يبقى مدفوناً مع طفلها، وما تبقّى يبقى حيّاً ليُعطي السّند والأمل لباقي العائلة. لهذه الأمهات تحيّة وقار لكلّ الدموع الصامتة التي تذرف في الصمت بسبب هذا الغياب الموحش.