كأنَّ ما يجري في القطاع التربوي من تخبط وضياع وتجاذبات، يبدو غير كافٍ لاضعاف هذا القطاع، بل ان الهدف هو توجيه الضربة القاضية اليه، كنا حصل لكل القطاعات، من المصارف، الى المستشفيات وغيرها، فها هي السياسة تتسلَّل مجددا الى التربية من خلال استحقاق وطني يتمثَّل في إجراء الامتحانات الرسميَّة للعام 2024، بحيث بتنا نسمع طروحات ظاهِرها تربويّ، أمّا باطنها فسياسي، طائفي وحزبيّ أحيانًا، فيما وزارة التربية عالقة في شباك تكبلها وتدفع بها الى تأجيل القرارات والامعان في بلبلة الاسرة التربوية...
تُشتم منذ أيام رائحة توحي بأرجحية إلغاء الشهادة المتوسِّطة بحججٍ باتَت معروفة من الجميع ولا حاجة لمناقشتها حاليا، علما أنه قد يكون من المفضّل إلغاؤها على أن تُجرى شكليّا وحفاظًا على ماء الوجه كما كان مخطّطًا لها أن تُجرى في إطار اختبار وطني، وأغلب الظن أنّه يفتقر إلى أدني مقومات الطابع الوطنيّ، وهو أقرب إلى مسرحية هزليّة منه إلى امتحانٍ رسميّ...
المشكلة التي ستُطرح في وزارة التربية خلال اجتماع مرجح اليوم او غدا، تعني امتحانات الشهادة الثانويّة العامّة التي حُدِّدت تواريخ إجرائها، ولها تُعد العدة بموازاة جملة من الاعتراضات من قبل جهات محسوبة على مناطق وسياسيّين...
ولمّا كانت حجج هؤلاء بضرورة الإلغاء أو التأجيل قد سقطت باعتبار أنَّ الشريحة الكبرى من التلامذة المرشّحين إلى امتحانات الشهادة الثانويّة العامّة بكلّ فروعها قد أتمَّت المناهِج المقرَّرة، ولا يجوز حرمانها من الامتحانات، وباعتبار موافقة معظم الجهات التربويّة على إجراء امتحانات خاصّة بتلامذة القرى والبلدات الجنوبيَّة الحدوديّة الذين لم يتسنَّ لهم إتمام مناهجهم وبرامجهم، فإنَّ ممثّلي بعض الجهات السياسيَّة والحزبيّة نقلوا المشكلة إلى مكانٍ آخر، وها هم يطالبون بمواد اختياريَّة علما أن وزارة التربية قد ألغت لهذا العام إمكانيّة المواد الاختياريَّة. وحجّة هؤلاء أن مبدأ المواد الاختياريّة معتمد في كثير من الأنظمة التربويّة حول العالم. هذا صحيح، ولكن قد فات هؤلاء أنَّ اختيار بعض المواد يتم وفق معايير تضمن توازن المعرفة لدى المتعلم كما تضمن له ثقافة تعكس شموليّة اطلاعه وتوفر له مقومات أساسيَّة لبناء شخصيّة تخوله دخول مجتمع الحياة والعمل من الباب العريض.
بكلام آخر، وتأكيدا على ما سبق، ها هي تجارب الغرب في أوروبا وفي أميركا وفي أستراليا أيضا، تقف خير شاهد ودليل، بحيث أنَّ الطالب في البكالوريا الفرنسية مثلا أو في البكالوريا الدوليَّة يختار منذ الصف الثانوي الأوّل المواد التي يريد أن يذهب فيها بعيدا شرط أن تتنوع وتتوازن بين علميّة وأدبيّة وعلوم إنسانيةٍ. أما أن يتم الاختيار عشية آخر امتحان رسمي يجريه بعد خمسة عشر عاما من التعلّم، ومن دون أي توجيه أو توجه، فهذا يعني تفصيل امتحانات وشهادات على مقاس كل مرشح، من دون البناء على أسس تربوية وعلميّة يعرفها هذا المرشح مسبقا وتكفل وصوله إلى هدفه.
إن تجربة المواد الاختياريّة في لبنان قد خرجت جيلا بمعظمه فاقد الهوية، وإذا ذهبنا إلى كبريات الجامعات في لبنان لتأكدنا من هذا الكلام بحيث إن هذه الجامعات تجد نفسها مضطرة إلى إعطاء دروسٍ مكثّفة لعدد كبير من تلامذتها لتمكينهم من مستوى الصف الثانوي الثاني والثانوي الثالث، دروس لم تُشرح لأنها حسبت من قبل التلامذة في عداد المواد التي لن يختارها التلميذ في الامتحان الرسميّ فلم يدرُسها وربما لم تُشرح لأنها اعتبرت في عداد الدروس المخفّضة Allègement، من دون أن يدرك كثيرون من المعلّمين وكثيرون من التلامذة أنها دروس أساسيَّة في السنوات الجامعيَّة.
وعليه، يهيب التربويون بمن يحاول الإمعان في المستوى التعليميّ بحجج واهية تغلف أبعادا مشبوهة، أن يُبعد السياسة عن التربية فللمواد الاختياريّة تداعياتها الشاملة، وهي ليست سياسية ولا طائفية ولا مناطقية... ان اقحام السياسة في التربية لأغراضٍ شعبويَّة قد يؤدي الى رفع منسوب النجاح، لكنه يسبب انخفاضا وترديا في المستوى التعليمي...