تتواصل التحقيقات في ملف عصابة الـ"تيكتوكرز"، التي أوقف من أفرادها حتى اليوم 10 متورّطين، فيما يبقى الكثيرُ من أفرادها طليقين في لبنان والخارج لأسبابٍ مختلفة، بالرغم من أن التحرّيات والمساعي متواصلة من أجل القبض على جميع مَن ثبتَ تورّطه في هذه القضية التي وُصفت بالمعقّدة والمتشعّبة.
الحديث عن الإتجار بفيديوهات الأطفال في عالم "دارك ويب" المظلم يؤكّد خطورة هذه الشبكة وما في غرفها السرّية، حيث تُدفع ملايين الدولارت لمشاهدة جرائم فظيعة وتجارة أسلحة ومخدرات وبيع أعضاء.
وبحسب مجلة "إنفو سكيوريتي" المتخصّصة في الشؤون الأمنية، شهد الأنترنت المظلم نمواً في عدد المستخدمين بنسبة 44 في المئة خلال انتشار جائحة #كورونا.
وفي العام 2021، أعلنت ألمانيا عن تفكيك أكبر سوق للشبكات المظلمة في العالم "دارك ويب"، والتي استُخدمت لبيع المخدِّرات والأوراق والعملات المزوّرة والخدمات الجنسية لملايين الأطفال في العالم.
لبنان ليس البلد الوحيد الذي يتأذّى بسبب هذه الشبكة المخيفة. فمنذ أكثر من أسبوع، خرجت إلى العلن أوّل جريمة في مصر تتعلّق بـ"الدارك ويب"، والتي عُرفت بقضية "طفل شبرا"، وهزّت الشارع المصري بسبب التجارة بالأعضاء البشرية.
وفي التفاصيل، عثر على جثة الطفل أحمد محمد سعد (15 عاماً) في إحدى الشقق السكنية في شبرا مقطّعة طولياً لنصفين، وبها شقّ من الرقبة حتى نهاية البطن، ولا توجد فيها أحشاء. ووفق التحقيقات مع الفاعل، اعترف بأنّ شخصاً مقيماً في الكويت طلب إليه اختيار أحد الأطفال لسرقة أعضائه مقابل 5 ملايين جينه مصريّ. أما اللافت فكان طلب الشخص إلى المجرم تصويرَ عمليّة قتله بوساطة تقنية "الفيديو كول"، حتى تسنح له فرصة بيعها ونشرها عبر المواقع الإلكترونية التي تبثّها مقابل مبالغ ماليّة طائلة.
ومن جريمة مصر إلى فضيحة الـ"تيكتوكرز" في لبنان، السبب الرئيسيّ وراء شناعة جرائم الاغتصاب والقتل يعود إلى شبكة "دارك ويب" وما تخفيه من فظائع، وما يُصرف عليه من ملايين الدولارت بغية مشاهدة جرائم أو اتمام صفقات خارج إطار القانون والشرع.
يكشف الصحافي أحمد ياسين على "إكس" عن أن إيطاليا أرسلت كتاباً منذ نحو شهرين عبر الأنتربول إلى لبنان لطلب توضيح حول فيديوهات لقاصرين يُغتصبون وتُنشر الفيديوهات على مواقع محظورة. القصة بدأت من هنا، علماً بأن عملية اغتصاب الأطفال بقيت سنوات، وبمعرفة الذين يُشتبه بتورّطهم في هذه القضية، وتكرّ سبحة فضحهم واحداً تلو الآخر.
من جهة أخرى، تكشف رئيسة الهيئة الوطنية للأمن السيبراني في مجلس الوزراء الدكتورة لينا عويدات لـ"النهار" عن أنه يُمكن للدول أن تدخل على "الدارك ويب"، وأن تعرف ما يجري لديها، ولكنّها بحاجة إلى إمكانيّات عالية.
ما الذي ينقصنا اليوم في لبنان؟ من المهم قبل الخوض في هذا السؤال، أن نعرف أنّ الدولة وحدها ليست مسؤولة بل سلوكيّات الأفراد وطريقة أداء المؤسّسات هي التي تؤدّي دوراً في هذا الموضوع. وتعترف عويدات بأنّه "في العام 2009 رصدنا هجومات سيبرانية مختلفة من "الدارك ويب" ومن الأنترنت العادي، كما رصدنا هجومات كبيرة من الدارك ويب في العام 2019 حول كل ما يتعلق بالـنظام المصرفي وبعض البنى التحتية الحساسة والمواقع الحكومية والرسمية .gov".
وعليه، لبنان مثل غيره من الدول يتعرّض لهجومات مختلفة، وبدوافع عديدة، وقد عملنا عليها وأصدرنا توجيهات رئيسيّة، ووفق ما تقول عويدات "ما زال لدينا الكثير لنقوم به".
وتعتبر عويدات أن "الداتا اللبنانية من أكثر "الداتا" التي يمكن بيعها. وعلى سبيل المثال، تُعتبر داتا اللبنانيين والعمال الأجانب النازحين السوريين سلعة جيّدة للبيع. ومع ذلك يجب الإقرار بأنّ أداء الناس والمؤسّسات يمكن أن يكون أخطر من شبكة "الدارك ويب"".
لذلك، قبل تقديم أيّ خدمة أونلاين يجب تحليل نوع الداتا وكيفية حمايتها، والأهمّ توعية الناس على مخاطر "الدارك ويب".
وبالعودة إلى خطة الحكومة، تشدّد عويدات على أننا في صدد قوننة ومأسسة العمل. وقريباً، سيتم إنشاء الوكالة الوطنية للأمن السيبراني لتضمّ في صفوفها الأجهزة اللبنانية كافة، بالإضافة إلى وزارة الاتصالات. وبالتالي، سيكون هناك قوانين واضحة ولازمة وغيرهامن الادارات المعنية وإجراءات وإمكانيات مالية، وسيكون هناك أجهزة متطوّرة، أثبتت قدرتها على كشف العديد من الهجمات. كذلك، نعمل على إنشاء المركز الوطني للاستجابة لجرائم المعلوماتية، لتكون هناك إمكانية السماح بتبادل المعلومات عن أنواع الهجمات التي يُمكن أن تتعرّض لها المؤسّسات ومساندة الأخيرة في حال تعرضت للهجوم السيبراني.
وبالرغم من كل المساعي المبذولة، لا تخفي عويدات أن الأهم من كلّ القوانين تطبيقُها، والعمل وفق آلية قابلة للتنفيذ؛ فأحياناً تصدر قوانين يصعُب تنفيذها نتيجة غياب المراسيم التطبيقية. لذلك، العمل اليوم على الإجراءات، وتوفير الأدوات لتطبيق القانون وإجراء التحقيق الجرميّ. تتحدث عويدات من منطلق علمي بعيداً عن السياسة ومتاهاتها.
وتشير إلى أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يُغيّر الدليل؛ والهاكرز أصبحوا أقوى من الدول، وهدفهم جني الأموال والسرقة والإضرار بالاقتصاد أو السياسة...
رسم بياني يوضح متوسط تسريب البيانات خلال السنوات الأخيرة (من تقرير IBM)
وقد كشفت الدراسة، التي أجراها مركز بحوث تعزيز الحماية السيبرانية في لبنان، العام 2022، عن أن الأنظمة المعلوماتية في القطاعات المختلفة تعرّضت لأكثر من مليونين و500 ألف محاولة اختراق خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة من شهر كانون الثاني 2022.
عالم متطرف خارج على القانون
يختلف استخدام الأنترنت المتعارف عليه ومحرّكات البحث وتصفّح المواقع عن شبكة "الدارك ويب"، التي تعتبر مشفّرة، وتخفي هوية الشخص وموقعه، وفق ما يشرحه الخبير في التحوّل الرقمي وأمن المعلومات رولان أبي نجم.
فما نعرفه عن شبكة الأنترنت السطحية هي بمثابة رأس جبل الجليد في حين أن الأنترنت عالم واسع، ويعتبر "الدارك ويب" جزءاً كبيراً منه.
ويوضح بأن "الدخول إلى شبكة "دارك ويب" لا يحصل من خلال محرّكات البحث العادية وإنما عبر Tor browser، بالإضافة إلى VPN connection. ومع ذلك، يشدّد أبي نجم على عدم الولوج إلى هذه الشبكة، لأنها أشبه بمغارة "علي بابا"، حيث يوجد أسوأ أنواع البشر. نحن نتحدّث عن تجّار مخدرات وأسلحة وبيع أعضاء ودعارة... وبالتالي، كل ما هو غير قانونيّ وغير أخلاقي يمكن أن تجده على هذه الشبكة المخيفة. ويبقى الهدف منها تنسيق كلّ الأعمال غير الشرعية والترويج لها وبيعها.
وفي متابعة للتحقيقات حول ملف "تيكتوكرز" في لبنان، تبيّن أن رئيس عصابة التيكتوكرز الموجود خارج لبنان يستغلّ تصوير الأطفال وهم يتعرّضون للتعذيب ويبيعهم لموقع "دارك ويب".
وقد خاطب لبنان الأنتربول الدوليّ لاقتفاء أثر شخصين لبنانيّين يُشتبه في أنّ أحدهما الرأس المموّل للعصابة الناشطة في لبنان على صعيد اصطياد القصّر واستدراجهم للاعتداء عليهم جنسيّاً. وقد توصّل التحقيق إلى تحديد هويّتيهما انطلاقاً من المعطيات التي توفّرت للتحقيق الأوّليّ الجاري منذ أسبوع، ودوريهما في هذه العصابة، ومآل الأشرطة المصوّرة، ومدى توافر الأدلّة على ما تناقلته بعض وسائل الإعلام لجهة الإتجار بها في عالم "النت" المظلم المشفّر من مستخدمين على نحو مجهول.
وتعليقاً على هذه المستجدات، يؤكّد أبي نجم أن هناك أشخاصاً يعانون أمراضاً نفسية تهوى متابعة فيديوهات متطرّفة بإجرامها وقساوتها، وتدفع آلاف الدولارت لمشاهدة مشاهد اغتصاب الأطفال أو قتلهم أو بيع أعضائهم أو الدعارة أو تجارة المخدرات والأسلحة...
وقد يكون وصف أبي نجم لهذه الشبكة بأنها "أخطر ما يمكن مشاهدته في عالم الأنترنت" أدق وصف لهذا الواقع المخفيّ، حيث "لا يوجد للأسف قوانين أو رقابة. ونسمع غالباً عن عمليات قرصنة يُطلب فيها دفع فدية مالية ضخمة عبر "دارك ويب" من خلال عمولات مشفّرة، للتهرّب من أيّ تتبّع. نحن في عالم متاح فيه كلّ شيء، من دون ضوابط".