توقّف الجمعة قلب طبيب الأطفال الدكتور روبير صاصي عن العمل، ليطوي مع رحيله مسيرة 44 عاماً من رسالة نبيلة "خارجة عن المألوف" في العمل الإنسانيّ - الطبّيّ مع المنسيّين والمهمّشين من أبناء هذا الوطن أطفالاً وراشدين، الذين عاشوا بعد خبر رحيله، شعوراً موحشاً باليتم، أي بفقدان والدهم الروحيّ، الذي فاض على كلّ واحد منهم باهتمامه وحنانه إلى درجة أنّه تخطّى بإنسانيّته عاطفة الوالدين البيولوجيّين للطفل المولود حديثاً، أو أيّ من الأطفال الخدَّج.
شاهدناه يدخل عليهم ممسكاً يد بعضهم ليحيّيهم بضحكته الملائكيّة، كلّ واحد منهم في غرفة العناية الفائقة في مستشفى الكرنتينا الحكوميّ. الأهمّ أنّه كان يعدهم بالخروج إلى الحياة مع أهلهم بصحّة جيدة بعد انتهاء فترات علاجهم.
الصور بعدسة الزميل حسن عسل.
نُبل أخلاقه
بعد خبر وفاته، بكته "البيئة الحاضنة" للمستشفى الذي رصد له شخصياً الأموال لبنائه وإعادة بنائه بعد انفجار 4 آب 2020، بحرقة كبيرة، لأنّ هذا الطبيب جسّد بإنسانيّته المعنى الحقيقيّ لقسم هيبوقراط وأخلاقيّات المهنة، فتحوّل من خلالها ناسكاً في مهنة الطبّ.
من ميزات روبير صاصي أنّه كان يرضى أن يجني الآخرون ثمار نجاحه أو بعضاً منها لكي يستمرّ مشروعه من أجل الإنسان وكرامته.
هو لا يختلف برسالته النبيلة جدّاً عن هنري كروييه المعروف بالأب بيار، راعي المشرّدين والمهمّشين في فرنسا، الذي شقّ دروب المحبة إليهم في نداء إذاعيّ شهير عام 1954.
هذا النداء المليء بالإنسانية واكبناه فعليّاً في تحقيق نشره موقع "النهار" في العام 2022، وسبقه تغطيات ثقافية وفنية عدّة لحفلات داعمة لجمعية
"Assameh Birth and Beyond" التي أسّسها شخصياً مع من يشبهوه لتوفير الدعم لرواتب الجسم الطبّيّ والتمريضيّ في المستشفى الذي سهر صاصي بعلاقاته وصداقاته، على بنائه بعد أن كان مساحة مهجورة، وتمسّك بترميمه بعد فاجعة 4 آب 2020 بجودة عالية إدارياً وتمريضياً وطبّياً، من خلال تأمين أحدث التقنيات المتطوّرة من أجل حديثي الولادة والأطفال الخدَّج.
نذكر تماماً أنّه كانت على يمين قسم العناية الخاصّة لحديثي الولادة والخدّج، مجموعة أسرّة لأطفال يحتاجون إلى رعاية طبّية، ومنهم الصغيرة "كاي"، التي كانت تستعدّ في حينها، وبعد انتهاء علاجها لمغادرة المستشفى مع والديها فادي وريتا ديب.
كان الدكتور صاصي يتحدّث عنها بفرح وبسمة عريضة مشيراً إلى أنّ "كاي ولدت في الشهر السابع، ما فرض بقاءها في الحاضنة في العناية الفائقة مدّة شهرين. بعد خروجها، أصيبت بالتهاب رئويّ، ما فرض مجدّداً دخولها العناية الخاصّة التابع لقسم طبّ الأطفال في المستشفى".
قاطعته زوجته ريتا "أم كاي" قائلة: "شعرنا بأنّ الدكتور صاصي والطبيبة المناوبة المتخصّصة في قسم العناية الدكتورة بيا كيوان وفريق الممرّضات أولوا اهتماماً خاصّاً بابنتنا كأنّها فرد من عائلتهم. كنّا نتّصل بهم مرّات عدّة في اليوم لنطمئنّ إلى صحّة كاي. كانوا يجيبوننا بدقّة وفرح كبير واهتمام أكبر...".
في سطور من هو؟
للأسف الشديد، نودّع الدكتور صاصي اليوم الأحد عند الساعة 3،00 بعد الظهر، مع ناسه وأحبّائه في مطرانية الروم الكاثوليك في بيروت، طريق الشام، بعد أن كانت له سيرة ذاتيّة مشرّفة جدّاً اختصرها بيان نعي مستشفى القديس جاورجيوس الجامعيّ رئيساً ومجلس إدارة، وفيها أنّه درس "الطبّ في جامعة القديس يوسف في بيروت وتخرّج منها عام 1975، وعمل طيلة 5 أعوام كطبيب مقيم في المستشفى نفسه وفي جامعات فرنسا، وتابع تخصّصه في إنعاش الأطفال في فرنسا، ليعود بعدها إلى لبنان حيث انضمّ عام 1980 إلى عائلة المستشفى كطبيب متخصّص في طبّ الأطفال حتّى رحيله الجمعة 10 أيار".
لفت البيان نفسه إلى أنّه "شغل منصب رئيس قسم إنعاش الأطفال في المستشفى بين العامين 1993 و1996، ورئيس دائرة طبّ الأطفال بين العامين 1996 و2005، حيث كان متفانياً في اهتمامه بالمرضى الذين عالجهم بحبّ كبير،" مشيراً إلى أنّه "شغل منصب رئيس قسم الأطفال في مستشفى الكرنتينا الحكوميّ في بيروت من العام 2016، وعمل جاهداً لإعادة بناء المستشفى بعد انفجار 4 آب 2020 مؤسّساً جمعية "آسامي برث أند بيوند"، التي تعنى بإعادة تأهيل الأم والطفل في المستشفيات الحكوميّة".
ماذا عنه؟ ومن بعده؟
ذكر رئيس مجلس إدارة مستشفى الكرنتينا الدكتور ميشال مطر لـ"النهار" بأنّ "الدكتور صاصي أعاد تأسيس المستشفى في العام 2016 بعد جهود بذلها شخصياً لجمع المال لترميمه بدعم من مركز كارلوس سليم، مفتتحاً بذلك قسم الأطفال حديثي الولادة"،
وتمكّن، من خلال جمعية " آسامي، برث أند بيوند" من التواصل مع مؤسّسات عالمية ومحلية لدعم المستشفى، ولاسيّما من خلال جهود جبّارة بذلها شخصياً مع بلدان صديقة ومنها فرنسا، وبلدان أوروبية وجمعيات ليونز وروتاري وسواها لترميم المستشفى بعد فاجعة 4 آب 2020، وتوفير أحدث التجهيزات والتقنيات لهذا القسم".
ماذا بعد روبير صاصي؟ أجاب قائلاً: "الإجابة عن هذا السؤال صعبة جدّاً، فروحه ستبقى معنا، لاسيّما معي أنا لأنّني عاصرته منذ العام 2018 لأكتشف عمق إنسانيته وتمسّكه بالإيجابية حتّى في أحلك الظّروف، نحن نستقبل نحو ألف طفل سنوياً في المستشفى ثلثهم من حديثي الولادة والأطفال الخدَّج."
وتابع مطر: "الأزمات المتراكمة لم تردعه من إكمال المسيرة، بل تكفّل من خلال جمعيته بتغطية 20 في المئة من الفاتورة الاستشفائية لضمان فرص الحياة لكلّ طفل".
أمّا نائب رئيس الجمعية عبود شامي فقد أكّد لـ"النهار" أنّ "جهود الدكتور روبير صاصي ساهمت مع فريق الجمعية من تحويل مكان مهجور في الكرنتينا إلى مستشفى، مشاركاً هذه النقلة مع أطباء من مستشفيي القديس جاورجيوس وطراد،" لافتاً إلى أنّ "الجمعية تتكفّل بدفع رواتب لثلاثة أطباء ملازمي المستشفى، و120 موظفاً فيه، لضمان استمرارية رسالتهم".
وتابع الشّامي: "سنفتتح في تموز المقبل جناحاً للولادة لإكمال رسالة المستشفى من حيث الاهتمام بالطفل والأم". وعمّا إذا كان سيطلق أيّ جناح فيه باسم روبير صاصي قال: "لا أعرف. أنتم أكثر دراية بنمط عمل المرافق الحكوميّة في لبنان".
بدوره، أكّد روبير برانس أحد رفاق دربه لـ"النهار" أنّ "لبنان خسر الطبيب الإنسان، الذي كان يلازمه وزوجته نيكول في صداقة تعود إلى 40 عاماً من المحبّة، وزوجته نيكول عرّفتني إلى زوجته الحالية شرمين. كان يأتينا دوريّاً ليتبادل مع زوجتي شؤوناً قانونية لمشروعه الإنسانيّ الطبّي في مستشفى الكرنتينا الحكومي."
صمت قليلاً ليكمل: "لقد خسرنا برحيله اندفاع رجل استثنائيّ، رجل نذر نفسه للمنسيّين والمتعبين في هذا البلد، وما أكثرهم..."