دمار، قذائف وأصوات القنابل وركام ودماء... مشهد واحد يرسم واقع القرى الجنوبيّة منذ 7 تشرين الأول حتّى اليوم. في الجهة الأخرى، تعلو أصوات المفرقعات والمهرجانات وحجوزات لحفلات يُحييها كبار نجوم العالم العربيّ التي تُبشّر بصيف "ولعان". صورة متناقضة دفعت بكثيرين إلى وصف لبنان ببلد "المتناقضات"، الحياة والموت.
يتأرجح اللبنانيّ منذ العام 1975 بين الصمود والتكيّف تارةً والمقاومة تارة أخرى، يتعالى عن جرحه لفترة قبل أن يسقط في الوجع عند أوّل صدمة. وفي لبنان ما أكثر الصدمات التي اختبرها الشعب وما زال حتّى اليوم. وقد يكون وصف المحلّل النفسيّ شوقي عازوري أدقّ ما يمكن قوله لاختصار واقعنا "التغلّب على الموت من خلال الضحك عليه".
في الجنوب، يُرصد عدّاد الشهداء يومياً وترتفع معه آهات الوجع والفقدان، في بيروت وجبيل والبترون وغيرها من المناطق تعلو صرخات الفرح والهيصات والأغاني كانتفاضة واقعية بالتمسّك بالحياة وسط ارتفاع منسوب التهديدات في شنّ حرب على لبنان.
حرب أو لا حرب؟ في الجنوب قرى أصبحت أشبه بالخراب، هناك الحياة تخرج من تحت الأنقاض عنوة وبهدوء. الموت المتمادي مستفزٌ والصمود أشبه بصفعة قوية في وجه "العدو". وتحت سماء بيروت، كانت أصوات الحاضرين في حفل الفنان المصري عمرو دياب تعلو فوق كلّ شيء، فوق التهديدات بشنّ حرب على لبنان ورائحة الموت العابقة في تراب الجنوب.
حتّى في الأخبار تحتلّ التحليلات والتحذيرات من حرب قادمة الصفحات ومقدّمات الأخبار، في حين تواصل أرقام الحجوزات والمهرجانات في ضخّ الأمل حول ما ينتظرنا في صيف 2024. هل نشهد انفصالاً عن الواقع أم ننتقم منه؟
يرى المحلّل النفسي أنّ "المزح يمكنه أن يتغلّب على الموت من خلال التهكّم عليه. ومن المهم أن نعرف أنّ الحياة والموت أساسهما الحداد، الذي يعتبر أساساً للانتقال من حزن الموت إلى الحياة. حالات الحداد التي حملها الناس معهم منذ 1975 في لبنان تتوالى بوجوه مختلفة، أصعب شيء على الإنسان هو عدم قدرته على الحداد".
لذلك يشدّد عازوري على أهمية انتهاء الحداد وإلّا سيبقى الإنسان يعيش في قوقعته، وسيبقى غارقاً في حداد لم ينتهِ بعد. وهنا تطغى ثقافة الموت على أيّ شيء آخر. الإنسان الذي ما زال يعيش حداده هو لا يعيش حياته، وكأنّ الموت حصل في الأمس، ويستغني عن ثقافة الحياة وملذّاتها أمام ثقافة الموت ومخلّفاتها.
في المقابل، ثقافة الحياة تعني أنّ الناس تريد العيش ولا يمكن حصرها بالسهر والمرح. ولا يخفي عازوري أنّ اللبناني يرافق الموت منذ الحرب اللبنانية في السبعينات، ولمس ثقافة الحياة في الهدنات التي كان يُتّفق عليها لوقف القتال والتي تعتبر في حدّ ذاتها تمسّكاً بالحياة. البعض نجح في الحداد والبعض الآخر لم يتخطاه، لذلك نحن بحاجة إلى المصارحة والمصالحة، يجب معرفة التاريخ والذاكرة حتى يتمكّن اللبنانيون من طويّ الصفحة إلى الأبد.
وينهي عازوري حديثه بالتأكيد على أنّ ثقافة الموت والحياة تتوقّف على الحداد، في حين تعترض الأستاذة في علم الاجتماع الدكتورة مي مارون على "تسمية ثقافة الحياة وثقافة الموت" باعتبارها تسمية سياسية ومزايدات في الوطنية والشعارات. صحيح أنّ هناك جزءاً يريد المقاومة وآخر يريد العيش بعيداً عن الحرب، إلّا أن جميعهم متّفقون على كره إسرائيل.
أمّا عن هذا التفاوت في الحياة أو الجهاد ضمن بقعة جغرافية واحدة لبلد صغير، تشير مارون إلى أنّ "قسماً كبيراً من الناس سئم الحروب المتتالية وكلّ همه أن يعيش ويؤمّن قوته ويسافر ويستمتع، وهذا ما يدفع الناس إلى سلك اتجاهين: اللذة الآنية أو للصلاة والجهاد.
لذلك لا يمكن أن نقسو على الناس ونجلدهم في الاتهامات ونكران واقع الحرب المستمرّة منذ 9 أشهر. الكلّ يشعر مع أهالي الجنوب، والتمسّك بالحياة لا يعني خذلان الآخر. الجميع يعيش حالة عدم استقرار والبعض يهرب من هذا الواقع بالبحث عن الفرح، فيما آخرون ينقطعون عن سماع الأخبار لحماية أنفسهم وعدم التفكير في الغد.
باختصار، لا يمكن جلد أحد ولا يمكن نكران الواقع، البلد يعيش أزماته الداخلية والخارجية، ولكلّ واحد قراره في الصمود على طريقته، سواء بالفرح أو بالمقاومة أو بالتحدّي... وفي كلّ الأحوال يبقى لبنان لبنان بكلّ اختلافاته.