أدّى الاعتماد الكبير على مولّدات الديزل في لبنان كبديل عن الانقطاع المستمرّ للكهرباء إلى تفاقم أزمة التلوث البيئي. وأظهرت الدراسة التي أجرتها الجامعة الأميركية في بيروت عام 2022-2023 زيادة في الملوثات السامة الناتجة عن مولّدات الديزل حيث بلغت 50 في المئة، بعد أن كانت في العام 2017 لا تتعدّى الـ 25 في المئة.
أزمة المولدات الكهربائية التي تعمل على الديزل والتي تجاوز عددها الـ9 آلاف مولد في بيروت الإدارية وحدها (450 ألفاً في كلّ لبنان)، تضع اللبنانيّين أمام انبعاثات خطيرة ومواد سامة من شأنها أن تُسبّب أمراضاً رئوية وسرطانية.
هذه النتائج وما سبقها في السنوات الماضية قابلتها مراسيم لوزارة البيئة لحماية نوعيّة الهواء، وكان لافتاً صدور تعميم في عام 2023 يلزم لأول مرة أصحاب المولّدات استخدام فلتر سُخام لجُسيمات الديزل للمولّدات ذات الطاقة الحرارية التي تفوق ٢٠٠ كيلوواط. وحددت الوزارة مواصفات جديدة ملزمة حول كيفية تشغيل واستثمار المولّدات الكهربائيّة، بهدف الحدّ من الملوّثات النّاتجة عنها.
وفي التفاصيل، يلزم التعميم معالجة دخان عوادم المولّدات بشكل فوري، عبر تزويد عادم المولّد الكهربائي بنظام فعّال وأكثر كفاءة يمكنه إزالة حتّى الجزيئات الدّقيقة، إضافةً إلى تحديد شروط الحدّ الأدنى لارتفاع العادم، مع فرض الصّيانة الدّوريّة.
تحرص الدولة اللبنانية في قوانينها على حماية نوعية الهواء وتصدر المراسيم والتعاميم على مرّ السنوات، ولكن على أرض الواقع تبقى الانتهاكات والاحتكارات والفوضى المتحكّم الأكبر بصحة الناس والبيئة، والدليل وجود شكاوى عديدة في عهدة القضاء بهذا الموضوع، مقابل التزام قلّة من أصحاب المولدات تطبيق القرارات.
يرى الخبير البيئي ناجي قديح أنّ المشكلة في لبنان ليست تقنية وإنما تطبيقية، فالقوانين والمراسيم التي صدرت منذ 20 عاماً في وزارة البيئة للحدّ من تلوث الهواء الناتج عن المولّدات الكهربائية بقيت حبراً على ورق، ولم نشهد أيّ إجراءات فعلية على أرض الواقع لقمع المخالفات ومراقبة مدى التزام أصحاب المولدات بالشروط والمعايير المفروضة.
لا تعتبر وزارة البيئة وزارة تنفيذية أي ليست جهة ملزمة لتطبيق القرارات، وهي من مسؤولية وزارة الداخلية والبلديات والمحافظين. ولكن للأسف لم نشهد أيّ فرض لتطبيق هذه الإجراءات الوقائية للتخفيف من التلوث والتي تتمثل بوضع فلاتر وأجهزة من شأنها أن تلتقط هذه الجسميات الدقيقة وتحدّ من الانبعاثات الصادرة.
على الرغم من خروج قديح من وزارة البيئة إلّا أنّه ما زال يتلقى شكاوى واتصالات من مواطنين بسبب الفوضى والانتهاكات المرتبكة من أصحاب المولّدات لا سيّما في الأحياء السكنية. ويؤكّد قديح أن "القوانين الصادرة من وزارة البيئة تشدّد على ضرورة أن يكون عامود المولّد أعلى بمتر ونصف من سطح المبنى حتى لا يتنشّقها الناس، ويجب ألّا تكون دون هذا المستوى.
وأمام هذا الواقع، هل يمكن الخروج بحلّ يتماشى مع الواقع اللبناني؟ لا يُخفي قديح أن الحلّ الوحيد القابل للتطبيق أن تتعاون الوزارات المعنية مع البلديات والقوى السياسية للضغط على أصحاب المولدات لتنفيذ الإجراءات المطلوبة من تركيب فلاتر وصيانة دورية لتأمين هذه الحماية الوقائية قدر الإمكان. وفي حال بقي الوضع على ما هو عليه، في ظلّ غياب تطبيق القوانين، فهذا يعني تعمّق الأزمة أكثر وأكثر وزيادة في الأمراض المزمنة والسرطانية، هذه قضية عامة أساسية تطال الصحة والبيئة، ولا يمكن التعاطي معها كما هي الحال منذ عشرين عاماً وحتى يومنا هذا.
تواكب كلّ جهة واقع التلوث في لبنان، تؤكّد دراسة الجامعة الأميركية في بيروت أنّ متوسط إشعارات التلوث PM2.5 في منطقة وسط المدينة التجارية ومنطقة المقاصد والجامعة الأميركية في بيروت تجاوزت المستويات القياسية لمنظمة الصحة العالمية بثلاثة أضعاف على الأقلّ. وحدّدت الدراسة مصادر التلوث في المواقع الثلاثة والتي تتمثل بالديزل والحرق وانبعاثات البنزين.
هذه النتيجة ليست مختلفة عن تلك الصادرة عن المركز الوطني للبحوث العلمية، حيث تحدثت الباحثة في علم السمّيّة في الهيئة اللبنانية للطاقة الذرية - المجلس الوطني للبحوث العلمية في لبنان الدكتورة إيمان عباس في حديثها لـ"النهار" أنّه "سحبت جسيمات دقيقة بالقرب من واحدة من أكثر المناطق ازدحاماً وهي منطقة طريق المطار، وتبيّن أن مستويات الجسيمات الدقيقة PM2.5 كانت أكثر من 1.9 مرة من المعدل اليومي لتوصيات منظمة الصحة العالمية.
تعكس هذه الأرقام مدى مساهمة مولّدات الطاقة التي تعمل بالديزل وحافلات وشاحنات الديزل على نوعية الهواء وتلوثه.
وفي هذا الصدد، تشير عباس إلى أنّ مصدر المواد العضوية السامة تعود إلى المولّدات والحرق العشوائي والسيارات. كما أظهرت دراسة أخرى أجراها المركز الوطني للبحوث العلمية في العام 2017 وصدرت نتائجها في العام 2020، أنّ الجسيمات الأكثر دقّة ومنها PM0.3 تدخل إلى الجسم وتحتوي أكثر على الهيدروكربونات العطرية متعدّدة الحلقات "المنترنة" و"المؤكسجة" التي تعتبر مواداً مسرطنة مباشرة. ومن المهم أن نعرف أنّه كلّما كان حجم الجسيمات صغيراً حمل معه مواداً مسرطنة أكثر.
وعن الحلول التي يمكن أن تحدّ من التلوث؟ ترى عباس أنّ هناك حلّين، الأول يتمثل بإيجاد حلّ لمشكلة الكهرباء وزيادة ساعات التغطية التي تساعد في الاستغناء عن المولّدات. أمّا الحلّ الثاني فيتمثل بتشديد المراقبة على المولّدات الموجودة، وأنواع الفلاتر المستخدمة، وضرورة تغييرها بشكل دوريّ، والتي تعمل على الحدّ من الانبعاثات السامة والمسرطنة.