بعلبك - وسام اسماعيل
ما لم يكن متوقعًاً هو أن يحدث هذا التحول الجذري في سهل البقاع، هذا المعقل التاريخي لزراعة الحشيش والمخدرات. فبعد عقود طويلة من الهيمنة الكاسحة لهذه المحاصيل غير المشروعة، عادت الأرض إلى حضن الزراعة الشرعية والمثمرة.
لا يكاد المرء يصدق أنه لم يعد بإمكانه رؤية نبتة الحشيش في هذه الأراضي الخصبة الا ما ندر وبنسبة لا تتخطى 8 في المئة عما كانت عليه، حتى في أبسط الحدائق المنزلية. فقد نجحت الدولة اللبنانية، من خلال الإجراءات الأمنية، في القضاء على هذه الآفة التي لطالما استعصت عليها مكافحتها.
زراعة المخدرات كانت دوماً تهرّب إلى الخارج عبر طرق سرية ومحكمة بواسطة تجّار محترفين. ولكن في السنتين الأخيرتين، أحكمت القوى الأمنية سيطرتها على كل منافذ التهريب، وقبضت على معظم هؤلاء التجار، فباتوا إما في السجون وإما خارج البلاد الا ما ندر، ممن يعتمدون التخفي ويعيشون الخوف والحذر.
وبذلك، تحررت الأرض من قبضة المخدرات وبدأت باستعادة عافيتها، عبر زراعة المحاصيل الشرعية كالحبوب والخضر. وكانت هذه الأرض قد تكدست فيها المحاصيل السابقة من دون تصريف، إلى أن جاءت الجهود الحثيثة للجيش ومكتب مكافحة المخدرات، لتنظيفها من هذه الآفة في فترات زمنية قصيرة لا تتجاوز سنة.
لهذا الإنجاز الأمني والزراعي دلالات كبيرة، فهو يؤكد قدرة الدولة على الانتصار على المخدرات وإعادة الأرض إلى طبيعتها المنتجة. كما يؤكد ضرورة استمرار هذه الجهود لضمان استدامة هذا النجاح وحماية المجتمع.
لكن المؤلم في الأمر أن السلطة لا تزال تمثل في منطقة بعلبك-الهرمل نموذجاً سيئاً للإهمال وانعدام الرؤية التنموية. فبينما تشن الدولة حرباً ضارية على الزراعات الممنوعة، فإنها لا تزال غائبة عن مسؤوليتها دفع السكان إلى هذا المسار. إنها قصة مأسوية تكشف عن فشل نموذج التنمية المركزي وغياب العدالة الاجتماعية.
فسبب لجوء هؤلاء من الزراعات الطبيعية إلى زراعة الممنوعات، هو غياب دور الدولة منذ عقود وانعدام الخطط التنموية للمنطقة، فالمخدرات كانت بمثابة البديل الوحيد لكسب لقمة العيش في ظل غياب البدائل الاقتصادية المشروعة.
وطوال عقود مضت، كان دور الدولة تكريس التهميش. وبدلاً من معالجة أوضاع المنطقة وتقديم حلول متكاملة للنهوض بها اقتصادياً واجتماعياً، اكتفت السلطات بالقمع والملاحقة الأمنية للمزارعين. وعندما حاول البعض منهم التحول مرة أخرى إلى الزراعات الطبيعية، جرى "تحطيمهم" في مقابل وعود بتأمين أسعار مناسبة لمنتجاتهم. إنها سياسة دفع المواطنين إلى الجريمة ثم إدانتهم عليها!
مسؤولية الدولة
اليوم تبرز مسؤولية الدولة بشكل جلي، فالحقيقة المؤلمة أن وقف زراعة نبتة الحشيش يمثل لدى الكثير من المزارعين عودة الى الفقر وسوء الحال، خصوصاً مع عدم توافر مياه الري، ما يحتم مسؤولية كبيرة من أجل دعم المزارعين والوقوف إلى جانبهم والنهوض بالمنطقة اقتصادياً واجتماعياً، وإعادة بناء الثقة بالدولة وتقديم بدائل اقتصادية مستدامة إلى المزارعين الذين أصبحوا الضحية الأولى للإهمال المتعاقب.
المزارع ع.ش. يؤكد لـ"النهار" أنه عاود زراعة "الحشيش" في سهل البقاع الخصيب، بعد أن انتعشت هذه الزراعة مجدداً عقب انسحاب القوات السورية سنة 2005. فزراعة الحشيش تدرّ أرباحاً كبيرة مقارنة بأكلاف الإنتاج المخفوضة نسبياً، ما يوفر له ظروفاً معيشية أفضل من زراعة الخضر.
وعلى رغم حملات الدهم السابقة التي نفذتها القوى الأمنية، والمذكرات الصادرة في حقه، فإن ذلك لم يثنه عن المضي في هذه الزراعة. فقد كان مضطرا لذلك لتأمين حاجات عائلته، وبخاصة تعليم أبنائه، في ظل معاناة جميع الزراعات الشرعية في المنطقة بسبب غياب الدعم الحكومي.
ويشير الى أنهم كانوا يبيعون محصول الحشيش إلى تجار متخصصين، معظمهم من رجال الأعمال اللبنانيين، الذين كانوا يزودونهم أيضاً ببذور نباتات الحشيش بأسعار رخيصة. علماً أن جزءاً من هذا المحصول كان يهرّب إلى الخارج، إلى أن أوقفت السلطات عدداً من شركائهم، ما جعل زراعة الحشيش تشكل عبئاً كبيراً عليه الآن.
إقفال معابر التهريب
ويكشف احد المزارعين الذي رفض ذكر اسمه لـ"النهار" عن أسباب أخرى يجري ذكرها للمرة الأولى، ومنها إقفال المعابر الأساسية للتهريب والذي زاد من صعوبة عملية التهريب وأدى إلى ارتفاع أكلاف النقل. فالمعابر المؤدية إلى الأردن باتت مقفلة بشكل نهائي، في حين أن المنافذ التي من الممكن نقل البضائع منها إلى مصر أصبحت باهظة التكلفة، إذ ارتفع سعر الهقّة (وحدة وزن متداولة تقدّر بـ600 غرام) إلى 2000 دولار أميركي.
نتيجةً لذلك، لجأ التجار المصريون إلى شراء الحشيش من المغرب بتكلفة أدنى بكثير، إذ يبلغ سعر الهقة هناك 600 دولار أميركي فقط.
ويضيف: "في ظل تشديد الإجراءات على تهريب الحشيش بكميات كبيرة (أطنان)، اتجه التجار إلى تهريب المواد المخدرة الأخرى مثل الكبتاغون. فالصندوق من هذه المواد المخدرة بوزن لا يتجاوز 200 كيلوغرام يدرّ أرباحاً تفوق أضعاف ما تجلبه الحشيشة، فضلاً عن كونها أسهل في عمليات التهريب".
ويكشف أن هذه المواد المخدرة تعالج وتحضّر في مصانع خاصة، يتقنها تجار منهم مطلوبون للعدالة أو مجهولون حتى الساعة، يجري بين الحين والآخر كشفهم ويتعرضون لتضييق كبير من الأجهزة الأمنية. وليس للمزارعين أي دخل بهذه الأنشطة المخدرة، فهي تجري بواسطة أطراف متخصصين. لذلك، لا تزال مخاطر انتشار المواد المخدرة قائمة رغم الجهود الأمنية لمكافحة زراعة الحشيشة، إذ تجد مصانع خاصة لصناعتها في أماكن مخفية ضمن آلات تصنع أجزاء كبيرة منها محلياً، أو آلات مختلفة تعدّل محلياً لتكون أدوات تصنيع لتلك المواد المخدرة مع وفرة المواد المستخدمة والمعروفة.
تاريخ زراعة الحشيشة
دخلت زراعة الحشيشة إلى لبنان سنة 1930 وزرعت في تلال البقاع الشمالي. تصاعدت سنة 1975 إبان الحرب الأهلية اللبنانية ووصلت إلى "عزّها" سنة 1990، وعندها اتخذ قرار مكافحتها بمساعدة الجيش السوري.
كانت زراعة الحشيشة تغطي مساحة تراوح بين 11 ألف هكتار و16 الف هكتار وتعطي سنوياً 1000 طن حشيشة.
سنة 1994 تقرّر إثر اجتماع ضم ممثلين عن الحكومة اللبنانية ودول أوروبا الغربية، مساعدة المنطقة وتنميتها لمنع زراعة المخدرات.
يذكر ان المساحة الصالحة للزراعة تقدّر بنحو 40 ألف هكتار.
وزير الزراعة
يعتبر وزير الزراعة عباس الحاج حسن في حديث الى "النهار" أن منطقة بعلبك-الهرمل "أكثر المناطق حرمانًا على مدار السنين منذ قيام لبنان، إضافة إلى منطقة عكار.
فزراعة المخدرات في هذه المناطق تُعدّ تحدياً قديماً واجهته الدولة في مراحل عدة بوسائل مختلفة، أكبرها في التسعينيات، واستمرت حتى يومنا هذا. وعلى رغم تطور البدائل من هذه الزراعات، إلا أن الدولة ظلت تواكبها بخفر".
ويرى انه "لا يمكن الحديث عن خطط تنموية شاملة في المنطقة، لكن هناك خططاً قطاعية. ومن أجل الحديث عن خطط تنموية شاملة، يجب أن يكون هناك تكامل وتفاعل بين سائر القطاعات. ولكن هذا التكامل والتفاعل المتجانس والمترابط غير متوافر ليس في بعلبك-الهرمل فحسب، بل في أي من المناطق اللبنانية. وهذا الأمر يتطلب مزيداً من الرؤى المشتركة بين القطاعات والجهات المعنية على اختلافها. وهذا ما قامت به الدولة اللبنانية في ظل الأزمة المركبة التي تواجهها في جميع المجالات، بحيث نجحت في إعادة الثقة بين المجتمع اللبناني ـ سواء المواطنين أو المجتمع الخارجي ـ والدولة.
ويقول إنه "لا يمكن الحديث اليوم عن بدائل إذا لم نضع خططاً واضحة لذلك. حالياً، نحن ضد زراعة المخدرات بشكل قطعي، وهناك رؤية اقتصادية تتحدث عن زراعة القنّب الهندي الصناعي بديلاً منها، فقد أقر المجلس النيابي قانوناً لزراعة القنّب الهندي للأغراض الطبية قبل قرابة ثلاث سنوات وسبعة أشهر، وهذا القانون يختلف بشكل تام عن زراعة حشيشة الكيف. ولكنه لم يطبق بعد من خلال إصدار مراسيمه التنفيذية".
ويتابع: "رفعنا الصوت منذ بداية تشكيل الحكومة الحالية أكثر من عشر مرات، لأن تطبيق هذا القانون يمثل طوق النجاة والأمل للزراعات البديلة الحقيقية".
ويرد تراجع زراعة الحشيشة إلى "أسباب عديدة، منها ضبط الحدود ومتابعة الأجهزة الأمنية للتجار. وهو أمر إيجابي، لكن المردود الاقتصادي للزراعات الخضرية أصبح أكبر من زراعة المخدرات، وهو أمر مهم جدا. لذلك، يجب التقاط اللحظة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والعمل على تطبيق القانون الذي أقره المجلس النيابي بدعم كبير من دولة رئيس المجلس النيابي نبيه بري، حتى تكتمل هذه الصورة، ويتمكن لبنان من الدخول إلى نادي الدول الكبرى التي تعمل في زراعة القنّب الهندي الصناعي والطبي، والذي يدرّ مردودًا اقتصادياً عالياً لا يقل عن مليار و500 مليون دولار".
ويلفت الى "أن عدم تطبيق هذا القانون حتى الآن يعود إلى المناكفات السياسية، وأنه في ظل حاجة لبنان الماسة إلى كل دولار، على رغم أن تطبيق هذا القانون سيُدخل مليارات الدولارات إلى خزينة الدولة، ويمكّن لبنان من التخلص من صفة زراعة المخدرات، ويجعله شريكًا حقيقيًا في صناعة تثبيت الأمن الصحي العالمي". ويأمل في "أن يبصر هذا المشروع الواعد النور قريباً".
وعن آليات الرقابة والمتابعة التي ستضعها الوزارة لضمان الأمن الزراعي وعدم العودة إلى زراعة المخدرات، قال: "هو عمل مشترك بين القوى الأمنية ووزارة الزراعة. وضعنا خططاً متكاملة في الوزارة 2025- 2030 ولا توجد صعوبات في التسويق، والتصدير كله مفتوح إلى الخارج عدا بعض الأسواق والأصوات التي تقول أن هناك غلاء في الشحن العالمي، وهذا طبيعي فالمنطقة تعيش حرباً حقيقية تمتد من اليمن إلى فلسطين والجنوب اللبناني".