عكّار - ميشال حلّاق
لم تعرف عكار في تاريخها - شأنها شأن باقي المناطق اللبنانية - هذه الشدّة من حرائق الغابات كما عرفتها في السنوات الخمس الأخيرة، حرائق كبيرة التهمت ولا تزال تلتهم مساحات شاسعة جداً بلغت حوالى 3500 هكتار ما بين 2020 و2024، بحسب إحصاءات جمعية "درب عكار" التي تتابع هذه الحرائق منذ 2020 عبر فريقها لمكافحة حرائق الغابات وتوثّقها توثيقاً دقيقاً. فلأول مرة في لبنان هناك جهة غير رسمية طبعاً، تجمع كلّ المعطيات عن هذه الحرائق بما يشمل الغطاء النباتي ومساحة الخسائر ونوعيتها وصولاً إلى العوامل الجوية، وتشارك هذه المعلومات مع الجهات الأكاديمية والعلمية ولاسيّما منها المجلس الوطني للبحوث العلميّة.
يشير رئيس الجمعية علي طالب إلى "أنّ عمل الجمعية لم يقتصر على التوثيق فحسب، فالنجاح في جمع كلّ هذه البيانات هو بسبب ملاحقة فريق درب عكار لمكافحة حرائق الغابات أكثر من 135 حريقاً في السنوات الماضية داخل عكار وخارجها، مُساهماً في الحدّ من تأثيرها بأكثر من 80 في المئة، ليس بسبب سرعة التدخّل فحسب، إنّما بنوعية هذا التدخل وفق نموذج فريد من نوعه اختص به الفريق، وهو التقدم داخل الغابات وشق دروب للمشي لتستعمل خطوط إمداد وأمان للفريق، ومدّ الخراطيم الرفيعة مقاس 10 ملم ذات الضغط العالي لمسافات تتجاوز الـ 1000 متر، وهي أطول مسافة يقوم أحد بتمديدها في لبنان.
أسرع من الحرائق
كلّ ذلك بسرعة تفوق سرعة انتشار الحرائق، ومع آليات رباعية الدفع مجهّزة ومخصصة للطرق الوعرة، صار في الإمكان بلوغ أماكن يتعذّر على الآليات التقليدية بلوغها. ورغم أنّ حمولة الآليات هي حوالى 800 ليتر إلّا أنّها بالتكامل مع صهريج أو آلية دفاع مدني قريبة أو أيّ مصدر للمياه تستطيع إخماد أصعب الحرائق وتبريدها بشكل رائع، ومع كفاءة العنصر البشريّ وتمرّسه بالتضاريس الوعرة واكتسابه الخبرة من خلال كلّ هذه المهمّات، تحوّل من فريق استجابة أولية إلى فريق تدخّل متخصّص في البيئات الوعرة وعمق الغابات".
يُذكر في هذا السياق أنّ فريق "درب عكار" يصنّف حاليّاً بين أهمّ فرق التدخّل السريع من حيث كفاءة العنصر البشري والعتاد، واعتماده على المعلومات المقدَّمة من المجلس الوطني للبحوث العلمية والطائرات المسيّرة الصغيرة الحجم، ما يتيح له التعامل بشكل مدروس ومنهجيّ مع أعتى الحرائق.
أكلاف التشغيل والصيانة
ويوضح طالب "أنّ أصعب المعوّقات التي ترهق الفريق هي أكلاف التشغيل والصيانة التي يعتمد في تأمينها على التبرعات، والتي بالكاد تكفيه ولا تلبّي معظم حاجاته، فضلاً عن الأضرار الكبيرة التي يتكبّدها سنوياً في الآليات والمعدات من دون امتلاكه القدرة على تعويض النقص الحاصل لعدم وجود التمويل الكافي".
إنّ التحليل العلمي لمعظم الحرائق في عكار بحسب "درب عكار"، يقودنا إلى أسباب عدّة لانتشار الحرائق: السبب الأول والأبرز هو كثافة الغطاء النباتي غير المسبوقة خصوصاً في غابات الصنوبر البروتي (شجرة متوسطة الحجم تصل في الطول إلى 20-35 متراً ويصل قطر الجذع إلى 1 م)، والتي شهدت أشدّ الحرائق بفعل تواصلها في ما بينها وسرعة انتشار الحرائق فيها، وهي سجّلت أكبر حريق في تاريخ لبنان عام 2021 في القبيات بمساحة تقارب الـ1700 هكتار.
سلبيّات غياب الرعي
أمّا السبب الثاني، فهو غياب الرعي عن الجبال العالية وهو ما ساهم في حرائق في المرتفعات العالية التي لم نشهد مثيلاتها سابقاً، وكانت حتّى فترة قريبة تنعم بالسلام بمنأى عنها. يضاف أيضاً الجهل بالممارسات الزراعية السليمة، وقرب الأراضي الزراعية من الأحراج وغالباً ما كانت الحرائق تنتقل منها وإليها.
غير أنّ السبب الأساسي في اندلاع الحرائق هو العامل البشريّ طبعاً: سبب عرضي نتيجة فقدان السيطرة على النار في الأراضي الزراعية، أو عمداً بقصد التوسّع في الاعتداء على الغابات أو تغيير وجهة استثمارها.
لكنّ أكثر ما يثير القلق هو مكبّات النفايات العشوائية المرمية على جوانب الطرق إلى جانب الأحراج، وهي تسببت بغالبية الخسائر عام 2024 من دون أن ننسى أنّ ثاني أكبر حريق مسجّل في عكار (بلدة السفينة عام 2020) تسبّب به إضرام النار في أحد المكبات، حيث أتى يومها على حوالى 350 هكتاراً أي ما يوازي مساحة 350 ملعب كرة قدم، لكن للأسف لم تتخذ البلديات واتحاداتها أيّ خطوات جذرية لمعالجة هذا الواقع.
أشجار تعوّض وأشجار لا تعوّض
"من المتفق عليه ألّا أسباب طبيعية وراء اندلاع الحرائق في لبنان، وعكار خسرت حتى الآن أرقاماً لا يمكن تعويضها"، يقول طالب، "السنديان والصنوبر قابلان للتجدّد بشكل سريع في مدة تتراوح بين 10 و30 سنة، غير أنّ غابات الشوح واللزّاب لن تتجدّد بسهولة، وربما لن تتجدّد إطلاقاً لصعوبة إنباتها، والتغيرات المناخية التي تؤدّي إلى أوقات جفاف طويلة يتعذّر في خلالها على البذور أو الشتول الجديدة النمو والاستمرار".
ويلفت إلى "أن الحلول الممكنة لتقليص أضرار حرائق الغابات، هي نتاج سلسلة عمليات وإجراءات يشترك فيها المجتمع من أعلى الهرم إلى أسفله، وغالبية هذه الخطوات حتى الآن لا تزال بعيدة عن المتناول وغير قابلة للتطبيق على المدى القصير، والمقصود بها هي عمليات إدارة المجتمع المحلي للغابات، والذي يتدخل وفق خطة موضوعة مسبقاً وينظم الكتلة الحيوية داخل الغابات بحسب حاجاتها، فيعمل على حماية منطقة معينة فيها أو على تشحيلها او القطع منها، ما يؤمن وظائف وموارد للمجتمعات المحلية ويقي الغابات من خطر الحرائق. ويجري تنفيذ هذه الخطط بالتعاون مع الوزارات والجهات المعنية، ورغم وجود هذه الخطط في أدراج العديد من الوزارات والبلديات إلاّ أنّها لا تزال حبراً على ورق".
يضيف: "بالنسبة إلى حملات التوعية، غالباً ما تخطئ في اختيار الفئة المستهدفة، فبدل التركيز على المزارعين والفحّامين وغيرهم من المتسببين بالحرائق والمجتمع المحلي المحيط بالغابات، تتوجه إلى البيئيين والفئات الخاملة التي لن تفيدها التوعية في شيء.
وفي ما خصّ فرق الاستجابة الأولية فلا تزال بمعظمها ناشئة وحديثة ومحدودة الفعالية إلى حين اكتسابها الخبرة والجهوزية الكاملة، فحضورها ومساهمتها ضروريان في تقديم الخدمات اللوجستية والإبلاغ عن الحرائق، والمساهمة في إطفاء بعضها.
الجيش والدفاع المدنيّ
وفي ما يتعلّق بالدفاع المدني، ورغم الموارد الشحيحة وتقادم الآليات والمعدات إلّا أنّه يبقى العمود الأساسي في مهمة مكافحة حرائق الغابات، ودوره محوري، فهو أولاً وآخراً المؤسسة الأولى المفوضة من الدولة التعامل مع هذه الكوارث، وأيّ جهود يجب أن تكون بالتنسيق والتكامل معه.
كذلك الدور الذي يلعبه الجيش مهم جداً خصوصاً على صعيد تأمين الحماية للفرق العاملة أو إخلاء المواطنين أو تأمين الدعم الجوي واللوجيستي اللازم لإخماد الحرائق بواسطة الطوافات، وقد نجح فيه بشكل كبير ويستحق الثناء والشكر عليه".
الحرائق في منطقة حوض البحر المتوسط آخذة بالاشتداد ولبنان ليس بمنأى عنها، والتحديات المقبلة تتطلّب مزيداً من تضافر الجهود والتعاون والتطوير المستمر في التدريب لتحسين كفاءة العنصر البشري وتعزيز قدراته، والتوعية المجتمعية كعنصر أساسيّ لحماية الغطاء الحرجي والنباتي. وثمّة ضرورة لتطوير المعدات وتجهيزها وتحديثها بشكل دائم.