وسام اسماعيل
بكّرت ربات بيوت في قرى بعلبك - الهرمل وبلداتها بالإعداد لاستقبال فصل الشتاء، من طريق تحضير "المونة" باعتبارها المخزون الغذائي الشتوي الذي يشكل جزءًا لا يتجزأ من التراث المحلي.
أبرز تشكيلات هذه "المونة" يأتي الكشك، الطبق الحاضر على موائد اللبنانيين منذ القدم، إذ تعامل أجدادنا مع إعداد الكشك وتخزينه صيفاً لنزيين موائدهم به شتاء من ضمن الأكلات الشعبية، لعدم توافر مشتقات الألبان على مدار العام، وفي ضوء وفرة كميات الحليب في الربيع والصيف وتراجعها في الشتاء، الامر الذي يدفعهم الى تصنيعه يدوياً كشكاً أو جميداً أو جبنا.
لا تزال صناعة الكشك في المنازل شائعة حتى يومنا هذا رغم وفرة الأطعمة الجاهزة، غير أن لذة الغذاء المصنوع يدوياً والمحفوظ في المنازل من دون مواد حافظة لا يضاهيها أي من المنتجات الجاهزة.
تحمل الأطعمة المحضرة بالطرق التقليدية بين طياتها نكهة فريدة وجودة صحية، تجعلها تتقدم على المنتجات المصنّعة بطعمها وكيانها الطبيعي.
للكشك أهمية كبيرة في المناطق الريفية شمال البقاع، حيث يشكل رابطاً اقتصاديا واجتماعيا مشتركا بين مجموعات نسائية، ويعتبر مصدر دخل إضافي لهنَّ، ويساهم في تعزيز العلاقات الاجتماعية والتواصل مع الجيران.
تختلف أسعاره بحسب طريقة الإنتاج وجودته، وتكون الأنواع المطحونة يدوياً أغلى من تلك التي تطحن في المطاحن.
في قلب سهل دير الأحمر، تمكنت السيدة ريما برقاشي من إحداث نقلة نوعية في مجال الإنتاج الزراعي والغذائي المستدام، بفضل مهاراتها الفنية وخبرتها الراسخة في الزراعة التقليدية، إذ نجحت في إعادة إحياء ممارسات تقنين الموارد الطبيعية وحفظ المنتجات الغذائية التي كانت سائدة لدى المجتمعات الريفية القديمة، ومنها نقل معارفها وتقنياتها التقليدية لإنتاج الكشك إلى الأجيال الجديدة.
وتؤكد البرقاشي في لقاء مع "النهار" أن الكشك "من تراثنا وتقاليدنا وتعلمناه من جدودنا، وطوّرناه ضمن معايير صحيحة".
يتعدّد استخدام الكشك في المناقيش والطبخ، كالقاورما وغيره، مع المياه والخضر والكثير من الطرق اللذيذة.
حتى بيت الضيافة الذي تملكه في بلدة دير الأحمر ويشتهر بتقديم أطيب المأكولات الريفية التي تصنعها بنفسها، يبقى الكشك الوجبة الرئيسية المميزة، وبخاصة الكشك بالقاورما.
انطلقت البرقاشي من تحضير الطعام لعائلتها الى مشاريع أوسع، لتصبح سفيرة المطبخ اللبناني في الدول العربية.
وحول إعداد الكشك، تؤكد برقاشي أن العملية تستغرق نحو عشرة أيام متواصلة. يبدأ العمل بوضع البرغل في وعاء كبير، ثم إضافة كمية وافرة من الحليب واللبن لتخميره. فإن كل كيلوغرام من البرغل يحتاج إلى كيلوغرام من الحليب وآخر من اللبن. وفي المراحل التالية، يوضع 4 كيلغ لبنة مجفّفة لكل كيلغ من البرغل، ويشرح هذا التوازن في الكميات سر نكهة الكشك المميزة.
بعد خلط المكونات في اليوم الأول، يترك الخليط ليُنقع مدة تراوح بين خمسة وسبعة أيام. وهذه الفترة هي الأهم في عملية الإنتاج، إذ تساهم في تطوير النكهة الحامضة المطلوبة.
وعندما يصل البرغل إلى القوام المطلوب، تقوم النساء بفرش سطح المنزل بأغطية بيضاء، ثم توزع كرات الكشك عليها ليجفّ تحت أشعة الشمس الساطعة. وهذه المرحلة هي الأكثر حساسية، إذ إن الشمس هي العنصر الأساسي في صناعة الكشك، وأي تغيّر في الأحوال الجوية يمكن أن يؤثر سلباً على جودة الانتاج.
وعندما يبدأ الكشك بالجفاف، تقوم النساء بتفتيت الكتل المتجمدة منه، ويتركنه ليجفّ تمامًا تحت الشمس قبل طحنه. وقد شهدت هذه العملية تطوراً في السنوات الأخيرة، إذ تعمد نساء الى إرسال الكشك إلى المطاحن بدلاً من اعتماد الطحن اليدوي التقليدي الأكثر تعباً والأفضل جودة.