حول طاولة، تحلّقت مارلين، هالة، غريتا، نويمي، مجد وميرفت. بغطاء على الرأس وكفوف في الأيادي، يتفحّصن المحتوى الياقوتيّ اللون في أربعة أوعية زجاجية، ويعاينّ لوناً وقواماً غاب اختلافهما عن أعيننا غير المدرّبة، يتذوّقن الحموضة، الحلاوة، النكهات، يتبادلن الآراء ويقترحن التحسينات. جلسة التقييم تلك كانت مخصّصة لتجارب على مربّى الخوخ، في موسمه، سواء باستخدام صنف خوخ "الجوهرة"، أو بتنكيهه بالفانيلا، والزعفران...
تلك الجلسات التشاورية هي روح التعاونية النسائية الإعدادية "زاد الريم" منذ انطلاقها عام 2019 في بلدة قاع الريم- قضاء زحلة. إذ تخبرنا سيدات التعاونية بأنّ كلّ منتج يخضع لتجارب عديدة، إلى أن يتوصّلن إلى الوصفة المعتمدة. كلّ واحدة منهنّ، كربّات بيوت، تأتي بخبرتها، ويواصلن التجارب والتحسينات إلى أن يصلن إلى المنتج المنشود. يسرنّ برأي الأكثرية أو يُخضعن القرار للتصويت، وثمّة رأي وازن آخر هو للمستهلكين إثر جلسات تذوّق تجريبية.
تميّزت "زاد الريم"، وسط وفرة مصنعّي المؤونة، بمنتجات غير تقليدية، جمعن فيها الطبيعة رقائق ولفائف رقيقة تنفذ منها أشعة الشمس، لتتفجر في الفم نكهات الفصول الأربعة. تمتاز "زاد الريم" بمنتجين غير متوافرين في الأسواق، عملت سيدات التعاونية بإدارة روزالي تنّوري على تطويرهما: رقائق البندورة المجفّفة المحفوظة طبيعياً مع الزعتر والزيت، ورقائق الفليفلة الحارّة المجفّفة.
تخصّصت التعاونية الإعدادية، منذ نشأتها، بإنتاجها للفائف الفاكهة المجفّفة الطبيعية من فريز، كرز، مشمش وخوخ، منتجاً طبيعياً خالياً من المواد الحافظة، تصلح لممارسي الحمية الغذائية سواء للرشاقة أو بداعي المرض، يألفه الصغار كونه يحاكي من حيث الشكل والطعم ذائقتهم العصرية للسكريات المصّنعة، إنّما بفوائد صحّية يسعى إليها الكبار أيضاً. وتشرح السيدة تنّوري أنّ هذا التوجّه جاء بعد دراسة تحليلية للسوق أظهرت وجود وفرة في منتج المربّيات التي تصنّع منزلياً أيضاً، فيما منتجات الفاكهة المجفّفة المستوردة تحتوي على كميات كبيرة من السكّر.
والى جانب إنتاجها لأصناف عديدة من مؤونة المربيات، الشراب، الصلصلة، مجفّفات العطرية والفاكهة، تحرص نساء "زاد الريم" على مواصلة تطوير منتجاتهنّ كمثل: خلّ الكرز وخلّ الخوخ، التين الأسود المجفّف بالدبس مع الجوز.
انطلقت فكرة المطبخ الغذائي التعاوني مع برنامج "بلدي" لـ"الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" بالشراكة مع مؤسسة رينيه معوّض بهدف دعم مشاريع للبلديات والمجتمعات المحلية في تحسين معيشة هذه المجتمعات. فتقدمت بلدية قاع الريم بمشروع مطبخ تصنيع غذائي تعاونيّ لتصريف الإنتاج الزراعي، وخلق فرص عمل لنساء البلدة، ورمّمت البلدية المبنى السابق لمدرسة قاع الريم الرسمية وجرى تجهيزه من المشروع.
تتزوّد التعاونية الخضار والفاكهة من السوق المحلية، مع إعطاء الأولوية لإنتاج البلدة ومن ثمّ التوسّع بقاعاً وساحلاً. وقاع الريم، الرابضة عند سفح صنين على ارتفاع 1250 متراً، ببساتينها وجنائنها التي تستقي من الجبل مباشرة مياهاً عذبة ونظيفة، وتلفحها شمس الجرد نهاراً ويقرصها برده ليلاً، تتميّز بإنتاج أفضل أنواع الفاكهة كالكرز والتفاح والخوخ وغيرها.
المطبخ الغذائي التعاوني شكّل أيضاً نقطة مضيئة في حياة السيدات المنضويات في تعاونية "زاد الريم"، ووفّر لهنّ فرصتهنّ المنشودة.
فعندما تسألهنّ لماذا انضممن إلى المشروع وماذا حقق لهنّ؟ تعكس إجاباتهنّ توقاً إلى أن يكنّ منجزات، لهنّ دور فاعل يحقّقن من خلاله ذواتهنّ ويكنّ أفراداً فاعلات في المجتمع، إلى جانب دورهنّ كربّات منازل: "فرصة لأخرج من البيت وأغيّر جوّاً"، "كسر الروتين"، "بناء شخصيتي وثقتي بنفسي"، "تكوين هوية خاصة بي"، "إنجاز أمر ما في حياتي". فقد اختصر المشروع الوقت والمسافة لهؤلاء السيدات الراغبات في فرصة عمل، بحيث أنهنّ لا يتكبّدن أكلاف المواصلات، ويبقين على مقربة من عائلاتهنّ، يساعدهنّ الدوام الحرّ في تنسيق متطلبات العمل والبيت، وبأن يكنّ منتجات من خلال المدخول الذي يتقاضينه من التعاونية وأجرهنّ بالساعة، فيحقّقن شأناً عزيزاً، "تصبحين مسؤولة عن نفسك مادياً، تكفين ذاتك، لا تحتاجين أحداً وتسعفين عائلتك".
لم يجلب المشروع للسيدات فرصة العمل فحسب بل أيضاً فرصة لتطوير ذواتهنّ، ومواكبة العصر من خلال الدورات التي خضعن ويخضعن لها، من الاطّلاع على قانون التعاونيات ومعرفة حقوقهنّ وواجباتهنّ، إلى دورات حول سلامة الغذاء، ريادة الأعمال، التسويق الرقميّ وغيرها، فبتن يتحدثنّ اللغة العلمية للمقاييس العالمية لصناعة الغذاء ومصطلحات الأعمال. وبعد أن كانت مشاركتهنّ الأولى في معرض "همّاً كبيراً"، باتت هذه المشاركة فرصة للقاء الناس من مناطق مختلفة والتفاعل معهم.
منذ انطلاقتها قبل خمس سنوات، و"زاد الريم" تنتظر أن تنقشع الغيوم السوداء التي تراكمت على لبنان. من الثورة، إلى الأزمة الاقتصادية والتضخّم، وبينهما وباء كوفيد، إلى تعطّل مؤسسات الدولة فشبح الحرب، تناضل المشاريع الانتاجية للتكيّف وتجاوز "كلّ قطوع بدوره".
ولكن مع كلّ طلعة شمس تأتي الفرص، وسيّدات "زاد الريم" مصّرات على استثمار كلّ الفرص، وليس آخرها الانضمام إلى شبكة دروب سياحية غذائية صمّمتها "منظمة التجارة العادلة" في إطار مشروع "شبكة 2" المموّل من "الوكالة الفرنسيّة للتنمية"، والذي زوّد المطبخ التعاونيّ معدّات جديدة ستساعد السيدات في تنفيذ وصفات مبتكرة في جعابهنّ.