ماذا أعدّت رعايا الكنائس المسيحيّة في المناطق اللبنانيّة للاحتفال بعيد انتقال السيّدة العذراء إلى السماء بالنفس والجسد، رغم الأجواء القلقة التي تعيشها البلاد جرّاء الحرب الجنوبيّة، وانفراط عقد المغتربين والسيّاح، والوضع المعيشيّ المتردّي؟
في 15 آب من كلّ سنة، تحيي الكنيسة عيد انتقال السيّدة العذراء بنفسها وجسدها إلى السماء. عقيدة إيمانيّة أعلنها البابا بيوس الثاني عشر سنة 1950، على وقع الصلوات والقداديس والاحتفالات وقرع الأجراس.
الشمال: اكتمال الاستعدادات
ذكر مراسل "النهار" طوني فرنجيّة أنّ القرى والبلدات الشمالية أنهت استعداداتها للاحتفال بعيد انتقال العذراء، وبدأت المسيرات الإيمانية إلى الكنائس التي تحمل اسم العذراء، كما الاحتفالات الخاصّة بالمناسبة إحياء للتقاليد والعادات المتوارثة.
أبرز المسيرات اليوم، مسيرة راجلة من حدث الجبّة إلى قنّوبين، لاقت البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي الذي ترأّس وفق تقليد درج عليه أسلافه، قداساً في كنيسة السيدة في الدير البطريركي، بمشاركة جمع من الأهالي والراهبات الأنطونيّات المسؤولات عن الدير في الوادي المقدّس.
وبعد الإنجيل، ألقى الراعي عظة تحدّث فيها عن معاني عيد انتقال العذراء، طالباً شفاعتها لحماية العائلات ولبنان واللبنانيين جميعاً.
وفي الجبّة وبشرّي، تُرفع ليلة العيد الصلوات وتُقام الاحتفالات الخاصّة بالمناسبة مع توزيع الهريسة على المحتفلين.
مسيرة العيد الكبرى شمالاً انطلقت من إهدن إلى زغرتا، يتقدّمها الكهنة والأخويات والكشافة والمؤمنون، وتواكبها البلديات ولا سيّما بلدية زغرتا/إهدن والصليب الأحمر اللبناني عبر توزيع المياه والعصائر والمثلجات، وتخصيص أماكن للراحة بعد تحديد الطرق الواجب سلوكها. وتنتهي ليلاً بقداس احتفالي في كنيسة سيدة زغرتا يترأسه النائب البطريركي الماروني العامّ المطران جوزف نفّاع الذي سيبارك بعد ذلك الهريسة لتوزّع على المصلّين عن أنفس الموتى من أهالي الحيّ المجاور من آل جعيتاني. كما تعقد في الباحة الخارجية للكنيسة حلقات الدبكة وتوزّع العصائر الباردة.
وكانت المسيرات الدينية انطلقت نحو سيدة زغرتا اعتباراً من أمس، ومنها مسيرة من كنيسة مار يوحنا زغرتا عبر الأوتوستراد الرئيسيّ فالتلّ ثمّ الساحة، في تطواف بذخائر الطوباوي البطريرك إسطفان الدويهي الإهدنيّ، وتدشين المذبح الجديد المقام على اسمه في الكنيسة، ووضع الذخائر ليتبارك منها المؤمنون يوم عيد انتقال السيدة العذراء.
وفي إهدن، ووفقاً للتقليد، جرى صباحاً "شطف" كنيسة سيّدة الحارة وتنظيفها، تمهيداً للقداس الاحتفاليّ فيها مساء اليوم، وفتحها طوال نهار العيد غداً.
وفي قرى قضاء زغرتا الزاوية وبلداته، يحتفل المواطنون بعيد السيدة، من خلال المشاركة في القداديس والمهرجانات والسهرات التي تقام في ساحاتها وفي جوار الكنائس والأديار، وتمتدّ من ليلة العيد حتّى الفجر.
وفي الكورة، يحتفل أبناء القضاء الأرثوذكس جنباً إلى جنب مع الموارنة، بعيد رقاد السيدة بالقداديس والصلوات.
وكانت انطلقت في العديد من القرى والبلدات البترونيّة مهرجانات عيد السيّدة والحفلات الخاصّة بالعيد، وفق التقاليد المتّبعة من صلوات وحلقات الدبكة والطبل والزمر وإطلاق المفرقعات الناريّة وعيش فرح العيد الذي يأمل معه البترونيّون أن يحمل الخلاص للبنان.
عكّار: تطواف وشموع واحتفالات
وأورد مراسل "النهار" ميشال حلّاق أنّ بلدات عكّارية عدّة تستعدّ للاحتفال بالعيد، وخصوصاً في الكنائس التي تحمل اسم السيّدة العذراء، طالبين شفاعتها كي يعبر لبنان إلى برّ الأمان.
على غرار كلّ عيد، يجتمع أبناء القرى والبلدات في ساحات الكنائس مؤدّين نذوراتهم، تالين صلواتهم ومحتفلين بليلة العيد، عبر إعداد الأطباق الريفية التقليدية الّتي يتقاسمونها في ما بينهم، إضافة إلى الحلويات والفاكهة الموسمية، وعرانيس الذرة المسلوقة والمشوية.
وفي هذا السياق، تختتم اليوم احتفالات عيد سيدة الغسالة التي تنظّمها رعية القبيّات بدعم من مؤسسة "إنسان" وبالتعاون مع الجمعيات الكشفية، ويقام قدّاس العيد عند التاسعة مساء برئاسة رئيس أساقفة طرابلس للموارنة المطران يوسف سويف يعاونه كهنة الرعايا.
وشهدت القبيّات إنارة الشموع من شرفات المنازل وجدران الطرق، استباقاً لمسيرة تطواف تمثال السيدة العذراء في أحيائها، خاصّة في محيط كنيسة سيدة الغسالة، بمشاركة أبناء الرعية ويتقدّمهم الكهنة.
سبق التطواف استعداد الأهالي أمام منازلهم لاستقبال موكب السيدة العذراء بالمباخر ونثر الورود.
واختتمت الأمسيات الفنية التي أُقيمت طوال الأيام الخمسة لمهرجانات عيد سيدة الغسالة، بليلة حاشدة أحياها الأخوان شحادة، وغصّت مدرجات المهرجان بأكثر من ألفي شخص رفعوا أعلام لبنان وتفاعلوا مع البرنامج الغنائيّ.
في حين شهدت منصّات سوق المؤونة والأشغال اليدوية والحرفية وسوق المأكولات إقبالاً لافتاً من أهالي البلدة والجوار ومناطق لبنانية عدّة.
زحلة: أحد أكبر الأعياد
وكتبت مراسلة "النهار" دانييل خياط: إذا كان الزحليّون دوماً مرفوعي الرأس، فلأنّ "سيّدة زحلة والبقاع" مطلّة على المدينة والسهل من علو 75 متراً، فكيف لا يكون عيد رقاد السيدة واحداً من أكبر أعياد المدينة بعد عيدَي الميلاد والفصح؟
"زحلة مدينة العدرا" يقول الأرشمندريت جورج معلوف راعي كنيسة سيدة الزلزلة العجائبية للروم الأرثوذكس في زحلة. فقد قامت المدينة قبل 300 سنة حول كنيسة الزلزلة، أقدم كنائس "مدينة الكنائس".
الكنيسة التي تحكي جدارياتها قصص صمود الزحليين، بحماية السيدة، من العوامل الطبيعية: زلزال عام 1759، ومن الحروب: حوادث 1860، دخول العثمانيين إلى الكنيسة عام 1914. "كنيسة الكلّ" المكرّسة للسيدة العذراء محفورة في وجدان الزحليين على اختلاف طوائفهم، بحيث يصل عدد زوّارها ليلة العيد وحده إلى 6 آلاف زائر، فيما كان المؤمنون المشاركون في جناز السيدة وتطواف الأيقونات ليل الثلثاء "متل التراب"، تشبّثاً بتراب المدينة "التي تزحل ولا تقع بشفاعة السيدة"، يصلّون مع الأب جورج بلا ريب "للعذراء كي تتشفّع لنا ليبعد الله الحرب والأزمات عن لبنان، فنحن ببركتها نعيش".
ويضيف الأب جورج عبر "النهار": "العذراء مريم تدعونا كي نكون أنقياء مثلها، ليحلّ الله فينا. ولبنان لن يستقيم من دون توبة ونقاوة ناسه".
لقد حمّل الزحليون "سيدة زحلة والبقاع"، والطفل يسوع على ساعدها، عنقود عنب وسنبلة قمح، فوضعوا اقتصادهم وغذاءهم في رعايتها. ولمناسبة عيد السيدة، افتتحت أبرشية الفرزل وزحلة والبقاع للروم الملكيين الكاثوليك، بالتعاون مع الجمعية اللبنانية للدراسات والتدريب، المعرض الثاني للتصنيع الغذائي والمؤونة البيتية الذي أقيم في باحة كاتدرائية سيدة النجاة، برعاية سفير جمهورية النمسا رينيه بول امري.
وفي كلمته قال راعي الأبرشية المطران إبراهيم إبراهيم: "العيد هو الإنسان، لذلك أعايدكم اليوم، ولأنّكم كُثُر فالعيد كبير، يقول الكتاب المقدّس: "لا تكن محبّتكم بالكلام أو باللسان بل بالعمل والحقّ"، لذلك يجب ألّا نكتفي بأن نركع ونرفع البخور، علينا أن نمدّ اليد للإنسان القريب منّا. الصلاة وحدها غير كافية، العمل الاجتماعيّ ذراع توازي الصلاة في حياة الكنيسة، والعمل في ذاته صلاة، كما علّمنا الكتاب المقدّس. كلّ إنسان سعى وتعب واجتهد لكي ينتج، علينا مساعدته في تصريف إنتاجه لكي يعيش بكرامة، خصوصاً في هذا الزمن الصعب، زمن التحدّيات. ونحن نتحدّى كلّ الظروف المحيطة بنا لكي نبرهن أنّ لبنان لا يركع ولبنان لا يموت، ليس في الأغنيات فحسب بل في الحياة أيضاً، والمعرض اليوم امتداد لما يحصل داخل الكاتدرائيّة، أي الصلاة والركعات والتبخير والترنيم، هذا العمل هو أيضاً صلاة."
وعيد "رقاد السيدة" هو عيد كاتدرائية "سيدة النجاة"، "دار المطران" يؤمّها في هذه الأيام المؤمنون مؤكّدين ما سبق وهتف به أسلافهم قبل قرابة قرنين: "لقد انتصرت السيدة، هي وحدها انتصرت". وبنوا الكاتدرائيّة عربون شكر، حاضرة تحكي عن نشوء المدينة ودورها المحوريّ في تاريخ لبنان "بشفاعة السيّدة".
بعلبك: احتفالات رغم التحدّيات
وكتب مراسل "النهار" وسام إسماعيل أنّ تحضيرات بلدة بشوات (منطقة دير الأحمر) التي تحتضن مزار شفيعتها سيّدة بشوات، تبعث الأمل في المستقبل رغم التحدّيات، إذ يحتفل الأهالي بالعيد متمسّكين بتقاليد راسخة وحماسة ملؤها الإيمان.
عدد كبير من المصلّين وفدوا للمشاركة في القدّاسات والاحتفالات والمسيرات، ولا سيّما الاحتفال الكبير الذي يقام الليلة في المزار، وتتخلّله سهرة صلاة وتسبيح وسجود أمام القربان المقدّس طوال الليل، ليزاح القربان صباحاً ويحتفل بالقداس الإلهيّ إلى جانب تطواف مريميّ في شوارع البلدة.
كذلك يُقام قدّاس احتفاليّ برئاسة راعي أبرشية بعلبك ودير الأحمر المطران حنّا رحمة مساء غد، وتطواف في دير الأحمر انطلاقًا من كنيسة سيّدة البرج، من ثمّ الوقفة الروحيّة في ساحة البلدة أمام كنيسة مار يوسف حيث تختتم بالقدّاس الإلهيّ في باحة الكنيسة.
كذلك تنظّم الرهبانية الباسيليّة الحلبيّة دير سيدة رأس بعلبك العجائبيّة في البقاع الشماليّ مساء اليوم، تطوافاً من ساحة البلدة إلى الدير حيث تُقام صلاة الغروب وتكريس الخبز، بمشاركة الفاعليّات الروحيّة الرسميّة والاجتماعيّة.
وأنهت النساء إعداد الأكلات التقليديّة والحلويات المميّزة لهذه المناسبة.
الاحتفالات في هذا العيد تكتسب أهمية أكثر من أيّ وقت مضى. الظروف الأمنيّة والصعوبات الاقتصاديّة لم تمنع الأهالي من بذل الجهود التطوّعيّة لإنجاحها. فالعيد بالنسبة إليهم ليس مجرّد تقليد، بل هو تعبير عن إيمانهم العميق وارتباطهم بتراثهم الروحيّ.