عكار- ميشال حلاق (فيديو وصور)
قفزة نوعية للجامعة اللبنانية التي تقوم بالأبحاث الهادفة الى حل مشكلات المجتمع في مجالات عدة، تحقّقت عبر منتج بحثي زراعي مهم، من خلال إنشاء المختبر الحي بالتعاون مع بلدية عكار العتيقة، هذه البلدة الجبلية التي صنّفت بين أجمل البلدات اللبنانية المعروفة بالزراعات العديدة والمتنوعة وإنتاجها الزراعي المتميز.
هذا المختبر هو وليد مشروع الجامعة الوطنية "مارا-ميديتيرا" بعنوان "حماية سبل عيش المجتمعات الريفية والبيئة في البحر الأبيض المتوسط بالاعتماد على الحلول القائمة على الطبيعة"، المموّل من شراكة PRIMA للبحث والإبتكار في منطقة البحر الأبيض المتوسط التي يدعمها Horizon 2020 البرنامج الإطاري للاتحاد الأوروبي للبحث والابتكار.
تحديات تغيّر المناخ
رئيس بلدية عكار العتيقة الدكتور محمد خليل الباحث في الجامعة اللبنانية والمشارك في إعداد هذا المشروع، يوضح لـ"النهار" أن "حافز تمويل هذا النوع من المشاريع هو أن منطقة البحر الأبيض المتوسط تتأثر في شكل كبير بتحديات مختلفة: تغيّر المناخ، تدهور موارد التربة والمياه، التصحّر وفقدان التنوع البيولوجي. وتؤثر هذه التحديات بفعالية على المناطق الريفية النائية والمحرومة، مما ينعكس على الموارد الطبيعية فيها وتدهور سبل عيش المجتمعات الزراعية المحلية".
ويضيف: "المشروع بدأ في نيسان ٢٠٢٢، وتنفّذه الجامعة اللبنانية في بلدة عكار العتيقة شمال لبنان، ويهدف إلى ابتكار الحلول القائمة على الطبيعة باستخدام نهج المختبر الحي الزراعي، لمعالجة التحديات البيئية والمجتمعية الرئيسية في المناطق الريفية في البحر الأبيض المتوسط، خصوصاً لناحية إدارة المياه والغابات، حيث يجري الاعتماد على ثلاثة حلول قائمة على الطبيعة:
- الزراعة المائية وتربية الأسماك (يزرع فيه العديد من الخضر والورقيات على أنواعها).
- إنتاج السماد العضوي الطبيعي لاستخدامه في كل الزراعات بديلاً من الأسمدة الكيميائية الصناعية.
- تشجير المناطق المعرّضة للتصحّر بعد الحرائق وانجراف التربة، بهدف إنشاء محمية طبيعية من شجر الأرز والصنوبر الجُوي (المثمر) لإنعاش المنطقة سياحيا واقتصاديا".
لماذا عكار العتيقة؟
ولماذا اختيرت عكار العتيقة المنطقة الجبلية نموذجاً للمشروع؟ يجيب: "تواجه عكار العتيقة كما حال العالم أجمع، تحديات كثيرة على المستوى الاقتصادي، الاجتماعي، والبيئي، وخصوصاً الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد وتدهور مستوى المعيشة، زيادة فقر المجتمع المحلي، التقلبات المناخية (انخفاض نسبة هطول الأمطار وامتداد فترات الجفاف الطويلة في خلال السنة)، حرائق الغابات وقطع الأشجار، إنجراف التربة، ممارسات الري البدائية وغير المستدامة، نقص المياه في ظل التدهور النوعي والكمي.
كما أن المشروع نفّذ في منطقة من عكار العتيقة تعاني شحاً في المياه لعدم وجود ينابيع فيها، فأتى ليؤكد مدى أهمية ممارسة النشاطات الزراعية وجدواها في المناطق التي تعاني من ندرة المياه، خصوصاً أن نظام الزراعة المائية يساعد على توفير كمية كبيرة من مياه الري تصل إلى 90% من المياه المستهلكة في الزراعات التقليدية والعادية.
كذلك يهدف المشروع الى تأمين مصادر جديدة للبروتين الحيواني، من خلال تربية الأسماك في المناطق الريفية والجبلية، وهذه البروتينات ستكون سنداً مساعداً للمجتمعات الريفية في مصادر اللحوم الأخرى.
و هذه الوسائل ترفد المياه بالمتمّمات المعدنية من النيتروجين، والتي تلعب دوراً أساسياً في الزراعات المائية، من خلال تخفيف الإعتماد على الأسمدة الكيميائية.
نموذج بيئي للزراعات المائية
ويعتبر أن المختبر الحي الزراعي نموذج بيئي للزراعة المائية وتربية الأسماك، مساحته 70 متراً مربعاً، ويُزرع فيه حوالى ألف شتلة من الخضر أهمها الورقيات (خس، بقدونس، روكا، سلق، كزبرة، حبق، نعنع...).
حتى الآن زُرع موسمان:
- الموسم الأول تضمن زراعة ٧٨٠ نبتة من الخس الفرنسي، مثل خس اللولوروسو وخس ورق البلوط (Lactuca sativa var.cripa) الأحمر والأخضر، لمدة أربعين يوماً في نظام الزراعة المائية. وتشمل هذه الزراعة خطوتين:
الخطوة الاولى: 20 يوماً لنمو البذور.
الخطوة الثانية: بعد 20 يوماً من زراعة البذور، تنقل الشتول الى نظام الزراعة المائية وتحصد المحاصيل بعد 20 يوماً.
وقد جرى حصاد المحصول وبيعه في الأسواق المحلية في لبنان.
الموسم الثاني الحالي وهو دراسة مقارنة لـ 200 نبتة من الخس الفرنسي مثل خس اللولوروسو وخس ورق البلوط (Lactuca sativa var.cripa) الأحمر والأخضر المزروعة في كل من الزراعة المائية والأكوابونيك (تربيةالأسماك) والزراعة التقليدية خارج النظام في التربة، بهدف تحديد الكفاءة للزراعة المائية مقارنة مع الزراعة التقليدية وتربية الأسماك كتقنيات متقدمة في الممارسات الزراعية وتوفير المياه وتجنب استخدام الأسمدة الكيميائية.
أهداف إقتصادية وبيئية
وما هي حسنات هذا المشروع مقارنة بباقي أنواع الزراعات؟ يضيف:
" يهدف التصميم الناتج لنظام الزراعة المائية اللامركزي الصغير الحجم في لبنان إلى:
-زيادة إنتاجية المزرعة وربحيتها دون استهلاك كبير للمياه.
-دعم الأسر الفقيرة في إنتاج الأطعمة الطازجة الخاصة بها.
-الحفاظ على نشاط المزارعين في مواسم الشتاء، وبخاصة في فترات محدودية الوصول إلى أراضيهم.
-تحسين سبل العيش للسكان من خلال إنتاج الخضر والأسماك بجودة عالية.
كما يتميز هذا النظام بفوائد بيئية عدة لجهة: عدم الحاجة إلى التناوب في زراعة المحاصيل، التخلص من الإنتاج الفصلي أو الموسمي، انخفاض الامراض الفطرية والحشرات، انخفاض كمية المعادن الثقيلة أو المبيدات الحشرية التي تتراكم في أنسجة النبات، توفير استهلاك المياه من خلال إعادة تدوير المياه في دورة مغلقة واستخدامها مرات عديدة.
كذلك تقدم هذه الأنظمة نفسها باعتبارها تكنولوجيا بيئية جذّابة قادرة على التصدي بفعالية للتحديات البيئية، وضمان الأمن الغذائي المستدام و توفير المياه ومكافحة التصحر.
وعن الخطوات المرتجاة من المشروع مستقبلاّ، وهل يصلح لكل البيئات الطبيعية ساحلاً وسطاً وجبلاً والجدوى الاقتصادية منه؟ يشير الدكتور خليل الى "أن الفريق يعمل على إجراء سائر الدراسات والأبحاث في المختبر الحي، وإعطاء التقارير التفصيلية والنتائج النهائية للمزارعين لضمان قيام المزارع بتنفيذ هذا النوع من الزراعة والحصول على نتائج مضمونة.
كذلك تجري دراسة الجدوى الاقتصادية للزراعة المائية من أجل إعطاء المزارع معلومات كافية عن الأكلاف والمساحة اللازمة والكمية المزروعة.
تطوير النظام وتوسيعه
أما الخطوة التالية فستتركّز على تطوير هذا النظام وتوسعه من خلال إنشاء شبكة وتطبيق للمراقبة الذكية، واستخدام أنظمة المراقبة الذكية في تشغيل أنظمة الزراعة المائية اللامركزية.
تجدر الاشارة الى أن نظام الزراعات المائية يعمل باستقلالية عن العوامل الجغرافية و يصلح لكل البيئات الطبيعية، ساحلاً وسطاً وجبلاً، شرط تقيّد الخبراء الزراعيين والمتخصصين بالشروط المطلوبة في كل منطقة.
ويؤكد خليل "أن تكلفة المشروع حوالى 10 آلاف دولار في البداية لنظام مساحته 70 متراً مربعاً يزرع فيه حوالى ألف شتلة من الخضر، ولكن يستطيع المزارع استرداد هذه التكلفة بعد سنة نظرا الى إمكان زراعة 5 الى 8 مواسم في السنة".
التكلفة التشغيلية والأرباح
وأجريت دراسة التحليل التجريبي للتكلفة التشغيلية والأرباح لإنتاج ٨٠٠ شتلة من الخس و10 كيلوغرامات من أسماك البلطي في الشهر، ونشرت النتائج في مجلة Sustainability" في 18 تشرين الأول (اكتوبر) 2023 تحت عنوان "الزراعة المائية اللامركزية للأراضي الرطبة تعالج التدهور البيئي وتحديات الأمن الغذائي في المناطق الريفية المحرومة: حل قائم على الطبيعة تقوده المختبرات الحية في البحر الأبيض المتوسط".
وفي النموذج الإقتصادي، تبين أن هذا النظام بالنسبة الى الغالبية العظمى من أصحاب المصلحة المحليين ذوي الدخل السنوي المخفوض، يصبح أكثر ربحية من خلال إزالة تكلفة راتب العامل، كون العامل هو المزارع، من غير اللجوء الى يد عاملة إضافية (100 دولار أميركي شهريا)، مما يؤدي إلى تحسّن في صافي الربح بحوالى 28 في المئة. كما أن التكلفة التشغيلية لإنتاج الأسماك أقل بكثير من تكلفة إنتاج الخضر في نموذج الزراعات المائية اللامركزية، مما يؤمن محاصيل نباتية وحيوانية في آن واحد، وتالياً يوفّر حلاً فعالاً من حيث التكلفة لأصحاب الحيازات الصغيرة في عكار العتيقة.
ويلفت خليل الى "أن فريق العمل يعمل على تنظيم دورات تدريبية وإشراك أصحاب المصلحة والمزارعين والمجتمعات المحلية في البلدة في هذا المشروع، من خلال ورش العمل ومشاركة الدراسات والأبحاث والتقارير التفصيلية معهم، ونقل المعرفة لنتائجه وتبادلها مع المستفيدين والمستخدمين النهائيين، كما يجري إشراكهم في وضع خطط عمل في ما يتعلق بقطاعي المياه والزراعة، وسبل إدارة المياه والتربة بطريقة مستدامة من خلال جلسات التدريب والتوعية حسال تطبيق الحلول والابتكارات الهندسية البيئية.
وتعلّم المزارعين سبل:
-إنشاء نظام الزراعة المائية (طريقة الزرع، تشغيل النظام، وصيانته).
-الاستقلال بالأمن الغذائي من خلال إنتاج البروتينات الحيوانية والخضر بكمية وجودة عاليتين".
وعلى المستوى العابر للحدود، يلعب المختبر الحي لنظام الزراعة المائية وتربية الأسماك دوراً حاسماً ليس في الإثراء المتبادل للإبتكارات التطبيقية التي تتماشى مع أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة فحسب، ولكن أيضاً يساهم في مدّ الجسور بين الدول والمجتمعات التي تواجه تحديات مشتركة لتبادل نتائج الأبحاث والمعارف والخبرات في تطبيق الحلول الصديقة للبيئة.
محمد خليل
*مدير مركز العزم لابحاث البيوتكنولوجيا في المعهد العالي للدكتوراه في العلوم والتكنولوجيا في الجامعة اللبنانية.
أستاذ محاضر في كلية الهندسة الفرع الأول في الحامعة اللبنانية ومسؤول الماجستير في الكلية.
أستاذ محاضر حول الذكاء الاصطناعي في جامعات كومبيان وليل ورين وروان وبواتيه وباريس في فرنسا، وجامعة بيترسبورغ في روسيا.
رئيس بلدية عكار العتيقة منذ 2019.
الباحثون
*الباحثون المشاركون في اعداد هذا المشروع الى جانب الدكتور خليل هم: الدكتور أنطوان سمراني، الدكتور فواز العمر، والدكتورة فاطمة يحيى.