النهار

إبتكارات تحاكي التجذّر في الأرض... أداروا ظهورهم للأزمات ويستثمرون في ممتلكاتهم مشاريع سياحية
دانيال خياط
المصدر: "النهار"
"ما الذي ينقص زحلة؟"، و"ما الذي ينقص البقاع؟" حتى لا يأخذا موقعيهما اللذين يستحقانهام على الخريطة السياحية في لبنان؟ فلنبدأ بما لا ينقص زحلة ولا البقاع. يغتني هذا السهل وعروسه بشباب مبادرين، حوّلوا شغفهم، معرفتهم الى مشاريع تساهم في رفد زحلة والبقاع بموارد سياحية، وذلك رغم الظروف أو بسببها.
إبتكارات تحاكي التجذّر في الأرض... أداروا ظهورهم للأزمات ويستثمرون في ممتلكاتهم مشاريع سياحية
إطلالة رائعة على زحلة والبقاع. (الصور لدانييل خياط)
A+   A-
 
"ما الذي ينقص زحلة؟"، و"ما الذي ينقص البقاع؟" حتى لا يأخذا موقعيهما اللذين يستحقانهما على الخريطة السياحية في لبنان؟ 
فلنبدأ بما لا ينقص زحلة ولا البقاع. يغتني هذا السهل وعروسه بشباب مبادرين، حوّلوا شغفهم، معرفتهم الى مشاريع تساهم في رفد زحلة والبقاع بموارد سياحية، وذلك رغم الظروف أو بسببها.
 
 
شباب متجذّرون بأرضهم، مهما حلقوا بعيداً، يعودون اليها محملين بالتجارب، التي يطوّعونها في خدمة منطقتهم. حوّلوا ممتلكاتهم الى مشاريع سياحية ناشئة، لا يبخلوا عليها بمال ولا بجهد ولا بوقت، في ظل غياب شبه تام لمرافقة رسمية سواء محلية أو على الصعيد الوطني.
 
هم من الجيل الذي "منذ أن فتحنا عيوننا على الدنيا" ولبنان في أزمات وحروب. فما عادت العواصف تحجب عنهم رؤية الفرص ولا تقعدهم عن ركوب المخاطر، يستشرفون الامكانات الكامنة في كرم أو في قطعة أرض مهملة، في بيت عتيق كما في فيلا حديثة، مستخدمين أدوات عصرهم بوصلة وأساليب لينشئوا "بيزنس" يديرونه الى جانب وظائفهم وأشغالهم. 
 
 
تكاد ألا تخلو بلدة بقاعية من مثل تلك المشاريع التي نورد ثلاثة منها نموذجاً عن قدرة الشباب اللبناني، البقاعي الزحلي، نقاطاً مضيئة وسط ظلام النفق الذي تحشر فيه البلاد:
 
UptownZahle
عندما تنسحب أشعة الشمس عن وادي البقاع، تلوّن سلسلة جبال لبنان الشرقية بالزهري والأزرق، فتبرز تضاريسها وتصبح هذه الكتلة الهائلة أشبه بتنورة متنتنة، تنسحب من تحتها سجادة الموزاييك للسهل مغموراً بالوشاح الذهبي لأشعة الشمس المنكسرة حدّتها من خلف سلسلة جبال لبنان الغربية. 
هذا المنظر الفريد بقاعاً لغروب الشمس، رأى فيه كل من الزوجين الزحليين نسرين العتل وباتريك غولدشتاين قيمة تمتاز بها قطعة الأرض غير المستثمرة التي تملكها العائلة في محلة عين الحجر، المطلة على سهل البقاع، من وسط كروم زحلة. فيوم وجد الزوجان نفسيهما، كما كل اللبنانيين، أمام خيارين: "إما أن نهاجر مع أولادنا وإما أن نبقى في البلد ونحاول" كما تقول نسرين، إنحازا الى الخيار الثاني. "حرام أن نترك هذه الارض، وضعنا كل ما جمعناه، بل كل ما بقي لنا بعد الذي حصل في البلد، وإفتتحنا مشروع UptownZahle، نقدمه الى زحلة، ونستثمره لنتمكن من الإستمرار". 
 
 
UptownZahle مساحة مجهزة للـ picnic، تمتاز بموقعها المرتفع، الذي يجمع بين إطلالة مميزة على سهل البقاع، والبرودات المنعشة. يقدم الى الرواد خدمة إستئجار طاولة ومقاعد وإحضار زادهم معهم، أو التزود من السناك الخاص بالمشروع. فإنطلاقاً من خبرتهما كأم وأب يخططان لمشاريع نزهات تناسب أولادهما أيضاً، فقد وفرا لبقية الأهل "مساحة آمنة يسترخون فيها، فيما أولادهم حولهم يلعبون في مساحة كبيرة". 
الى ذلك يوفر المشروع خدمة إستئجاره كاملاً أو جزئياً لإقامة الحفلات للمناسبات الخاصة كحفلات عيد الميلاد، التخرّج، عروض الزواج والخطوبة ووداع العزوبية وغيرها. وفي نهايات الأسبوع، تصبح الأجواء راقصة وطربية مع الحفلات الليلية التي ينظّمها المشروع. 
UptownZahle مشروع موسمي صيفي، يقفل أبوابه شتاءً، وها هو يدخل موسمه الثاني بنجاح مقارنة بظروف البلاد. يفتح أبوابه خمسة أيام، بينها نهايات الأسبوع، عند المسويات بدءاً من السادسة مساء. وتقول نسرين: "نفتحه جزئياً، بقدر ما تتحمّل المنطقة، وإمكان أن نعطي لمشروع لا يزال مردوده أقل مما نستثمره فيه". 
 
 
وتضيف بعزم: "لن نتوقف وسنواصل تطوير المشروع وتوسيعه، لكنه يحتاج الى وقت، إنما تشجيع الناس وثنائهم هما الحافز لنا لنستمر". وإقراناً للقول بالفعل، قام الزوجان بتشجير الأرض، في إستثمار بعيد المدى، لوضعه مستقبلاً في الخدمة في النهار أيضاً، حيث توفر هذه الأشجار عند نموّها الظلال التي تقي الرواد من شمس البقاع الحادة".    
HeyGuest
من يرى زحلة بعيني جان بو صالح فهي أجمل المدن، والوجهة السياحية التي لا يمكن تفويتها، "تتوافر فيها كل أنواع السياحة، الى جانب الأمان والخدمات والمناخ"، والمنامة فيها "تجربة إتركوها على جان". 
ليندا وجان بو صالح زوجان زحليان يافعان، يهويان السفر وإستكشاف مناطق لبنان، حيث باتا مرجعاً لاصدقائهما. إلا أن ترحالهما لم يكدّس الذكريات لديهما فحسب، بل راكم لديهما المعرفة أيضاً، فوظّفا خبراتهما في قطاع بيوت الضيافة. من بيت ضيافة بنياه في كسارة، الى خبرة ليندا التي تمتد ست سنوات في مجال العمل الفندقي، أطلقا المنصة الرقمية  HeyGuest على وسائل التواصل فايسبوك، إنستغرام وتيك توك، شبكة تجمع بيوت الضيافة في منطقة زحلة وجوارها، تسوّق لها، وتربط بينها وبين النزلاء. 
وقد جاءت مبادرتهما إستجابة لسؤال رفاقهم: أين نمكث في زحلة؟ لدى زيارتهم للمدينة، وتماهياً مع ال، trend العصري بعيش خبرة الإقامة في بيوت الضيافة، في ظل رواج السياحة المحلية سواء عالمياً أو بفعل الأزمة الاقتصادية على ما يشرحا. 
هذه المبادرة حفّزت اصحاب المنازل الراغبين في إستثمارها بيوت ضيافة، على التواصل مع الزوجين بو صالح والإستعانة بهما لوضعها في الخدمة، بحيث جمعت المنصة بعد شهرين فقط من إطلاقها، في حزيران الفائت، 27 بيت ضيافة في مدينة زحلة، وفي بلدتي عميق وعنجر، على أن تنضم بلدة نيحا قريباً الى القائمة. 
 
 
الى جانب التسويق لهذه البيوت بفيديوهات وأساليب تحاكي روح العصر، أضحت ليندا نجمتها بعد أن أجادت بالفطرة التعامل مع الكاميرا، يلعب الزوجان دور صلة الوصل مع الزبائن من جهة ومع أصحاب البيوت من جهة ثانية. فهما يتوليان التواصل مع الفريقين، الحجز، تنظيف المنزل وتجهيزه قبل إشغاله من الضيوف وبعده بواسطة فريق تنظيف مختصّ، وتلبية طلبات الزبائن. والقيمة المضافة في عملهما بإدارة هذا المرفق هي في خدمة الزبائن التي يوليانها أهمية ولا يفوتهما تفصيل. 
يحرص جان وليندا على أن تستوفي البيوت مواصفات ومعايير محددة لتنتمي الى شبكة HeyGuest، على أن تتنوّع خيارات الإقامة على المنصة لتلبي الأذواق والميزانيات على اختلافها، كما يوليان من جهة أخرى حرصاً على أن تكون حجوزات تلك البيوت وإشغالها لائقة ومحترمة للمنزل الذي وضعه أصحابه تحت إشرافهما. 
 
كلٌ من ليندا وجان يعملان في وظائف، ويستثمران باقي وقتهما وجهدهما في المشروع، ويطوّران أساليب التسويق، فيعملان على خريطة سياحية تضم أماكن بيوت الضيافة والمعالم السياحية، الى مراكز الخدمات الاساسية لتكون في خدمة زبائن بيوت الضيافة. كما يعملان على تأمين حسومات لهؤلاء الزوار في مطاعم ومقاه، "لتعميم الفائدة على أكبر عدد ممكن من المصالح الاقتصادية"، كل ذلك بجهدهما ومالهما الشخصي، في سعيهما الى أن يصبح هذا المشروع عملهما وموردهما الأساسي.
وأكثر ما يفرح الزوجان هو أن تصبح زحلة مقصداً للسياح وان يروها كما هما "أجمل المدن، ولا ينقصها شيء عن سواها من العناوين السياحية الرائجة". 
 
Croum Coffee
عندما تقول وادي العرائش، يتبادر الى ذهن الناس مقاهي وادي البردوني، لكن ثمة عنوان جديد في وادي العرائش دليلك إليه رائحة القهوة التي تقودك الى منزل حجري تراثي، عند مدخل البلدة، محاط بسطيحة وحاكورة، فتكون قد وصلت الى مقصدك Croum Coffee، مقهى متخصص بالقهوة، يكرّم الأرض والمزارع والتراث.  
 
مشروع إفتتحته حديثاً المهندسة المعمارية ميرا إسطفان بمعاونة شقيقها شربل، وفيه ترجما شغفهما ببلدتهما وادي العرائش وبالقهوة. 
 
من الهندوراس، وتحديداً من منطقة ماركالا، المتصدّرة إنتاج القهوة وتصديرها في أميركا الوسطى، والمعروفة بالـ speciality coffee راح شربل المقيم في البلاد منذ زمن وبات يحمل جنسيتها، يرسل القهوة الى شقيقته ميرا، ومع تذوق محيطهما لهذه النوعية غير التجارية وطلبهم لها بدأت القصة، قصة "بيزنس" ميرا في تسويق الـ speciality coffee في لبنان. 
وميرا موسوعة في صناعة القهوة، بالمعرفة التي إكتسبتها بعد 5 سنوات من البحث والتخصص في المجال في كلٍ من دبي واليونان، فتحدثنا عن تجربة كاملة من اختيار الحبة، الى أساليب التنشيف والتخمير والتحميص واختلافها بحسب طرق تقديم القهوة من الطريقة الفرنسية الى الأميركية الى الإيطالية وبالركوة، حتى لا تخسر من نكهاتها، فالقهوة هي فاكهة ويجب أن نشعر بنكهاتها". وتلك التجربة متوافرة في محترف Croum Coffee. 
 
 
لم يبدّل Croum Coffee، في وظيفة البيت التراثي الذي يشغله. بيت آل إسطفان في وادي العرائش، يزيد عمره عن مئة سنة، لطالما جمع أفراد العائلة، وهو يجمع الآن الأحباب، الأصحاب، العائلات حول فنجان قهوة مختصّة. إستخدمه انطوان إسطفان، والد ميرا وشربل، محترفاً للرسم والنحت، ومن أعماله البارزة في زحلة تمثال سعيد عقل في الحديقة العامة "المنشية" على بولفار زحلة، وبات اليوم محترفاً لصناعة القهوة. وقد حرصت ميرا على "أن أرمّم البيت، لا أن أجدّده"، فأعادت بيت جدودها الى ما كان عليه، في مشروعها بتحويله الى محترف للقهوة، "إيد بإيد" مع شقيقها الذي لم يؤثر لا البعد الزمني ولا الجغرافي بتعلقه بلبنان وبوادي العرائش. 
أكثر من ذلك، يقدم الشقيقان بمشروعهما تجربة مرتبطة بالأرض ما بين الهندوراس ووادي العرائش. وتشرح ميرا أن "حبة القهوة في بدايتها كفاكهة تشبه حبة الكرز لونها أحمر أو أصفر، كحبة الكرز عندنا في كروم الوادي"، ووادي العرائش مشهورة بنوعية الكرز الذي تنتجه جنائنها "من هنا جاءت تسمية "كروم كافيه". "نأتي بالقهوة من المزارعين مباشرة، ندوّن على أكياس القهوة إسم المنتج، وإسم المزرعة، لنضيء على المزارع وعلى جهده، وأنا أفكر بأبي، الذي هو أيضا مزارع، كم يتعب في الأرض لتنتج". يبقى أخيراً أن Croum Coffee يتعاون مع نساء الوادي في تقديم حلويات بيتية من صنعهن لمرافقة فنجان القهوة، ومع مشاريع صاج نسائية وشبابية للترويقة. 
 

فما الذي ينقص زحلة والبقاع؟ 
"الدعم معنوي من المسؤولين في المنطقة"، تقول نسرين، "الحضور الإعلامي والإعلاني الترويجي لما تكتنزه زحلة" يقول جان. يغيب عن البقاع وزحلة، المرافقة الرسمية، الوزارية والبلدية التي تعزّز المناخ الإستثماري في السياحة، يعوزهما الخطة السياحية المبنية على رؤية وأهداف تعزّز دور البلدات والأطراف، يفتقران الى الإدارة السياحية التي تشبك بين مواردهما السياحية المختلفة والى التسويق والترويج لها، تلك بعض مما يرى العاملون في القطاع السياحي حاجة ترفدهم بوسائل الاستمرارية. 
ورغم ذلك، تزهر المشاريع السياحية في زحلة والبقاع، بمبادرات فردية لمواطنين يستثمرون في ممتلكاتهم ليستعينوا بهذه المشاريع على أزمة كي لا تبتلعهم ولا تطردهم خارج البلاد. قدرات لبنانية، بقاعية، زحلية تحيي بخطواتها الأرض، وتسعى الى أن يبقى الرابط بها من خلال صناعة الذكريات الجميلة فيها رغم كل شيء. كما ميرا التي ترغب في أن تعيد إحياء رياضة الكرة الطائرة التي إشتهرت بها بلدتها وادي العرائش، وكان زوجها لاعباً في آخر فريق مثّل البلدة في هذه الرياضة، وتعلن إستعدادها للتعاون في إعادة إنشاء ملعب للكرة الطائرة. فالذكريات تصنع الحنين، والحنين هو صلة الرحم مهما بعُدت مسافات عناوين الاقامة، في الهندوراس كشربل، أو بيروت كمثل ميرا أو أدونيس كنسرين وباتريك. 
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium