عامٌ دراسيٌّ ثانٍ يُقبل بعد أيّام ولم تنتهِ الحرب في الجنوب. لم يكُن يتوقّع الطلاب وذووهم أن تمتدّ الأزمة لسنة إضافيّة، ما يفرض على بعضهم "نزوحاً تربويّاً قسريّاً" بعد نزوحهم الأوّل.
حالة تخبّط وضبابيّة يعيشها الأهالي في المنطقة الحدوديّة، خصوصاً ممَّن دُمّر منزله وبات عاجزاً عن العودة إلى قريته في الوقت الحاليّ، واضطراره إلى البحث عن بدائل سكنيّة وتربويّة في آنٍ معاً. أمّا العائلات النازحة إلى قرى جنوبيّة تُعَدّ "آمنة"، أو إلى الضاحية الجنوبيّة لبيروت، فتواجه ضياعاً في تحديد مستقبل أولادها التعليميّ، بين التسجيل في مدراس في نطاق إقامتهم الموقّت، أو متابعة التعليم "أونلاين" كالعام الماضي، في ظلّ حالة عدم اليقين أمنيّاً.
وعلى الرغم من اشتداد الحرب واتّساعها في الأشهر الأخيرة، أثبت طلّاب الجنوب إصرارهم على التعلُّم وحصد نتائج متفوّقة في مختلف المراحل الأكاديميّة. تجربة التعليم "أونلاين" لم تكُن متكافئة بين المدارس الخاصّة والرسميّة في أقضية بنت جبيل ومرجعيون وحاصبيّا العام الماضي، وما فاقم معاناة الطلاب حينها انقطاع الإنترنت بسبب تشويش الطائرات المسيّرة الاستطلاعيّة، أو اضطرار عدد منهم إلى النزوح أكثر من مرّة وفقاً للتطوّرات الأمنيّة.
فكيف تتحضّر مدارس الجنوب للعام الدراسيّ الجديد؟ وما الصعوبات التي يواجهها الأهالي؟
تبدو المدارس الخاصّة في الجنوب أكثر استعداداً لانطلاق العام الدراسيّ من المدارس الرسميّة التي لم يرشَح عن وزارة التربية أيّ قرارات بالمهل أو الآليّة بعد. وثمّة تفاوت بين إجراءات المدارس الخاصّة كلّ بحسب إدارته وموقعه الجغرافيّ وقدرته الاستيعابيّة.
إلى ذلك، لا يوحي بدء التسجيل في عددٍ من المدارس الخاصّة التي ستفتح أبوابها حضوريّاً للطلّاب في بلدتَي رميش وتبنين (قضاء بنت جبيل)، على سبيل المثال، بأنّ الإقبال سيكون كبيراً، فالمقيمون في تلك المنطقة محدود، وبالرغم من عدم تعرّضها للقصف اليوميّ كبلدات أخرى، إلّا أنّ ظروف العيش والعمل ومقوّمات الحياة ليست طبيعيّة.
...
في رميش، تروي مايا (اسم مستعار)، وهي أمّ لثلاثة أولاد، المعاناة النفسيّة التي عاشتها ابنتها (15 عاماً) حينما تركوا منزلهم العام الماضي متوجّهين إلى بيروت، وكيف تراجع مستواها الدراسيّ، ما اضطرّها للعودة إلى رميش ومتابعة التعليم "أونلاين".
وفي محاولة لإعادة الحياة إلى مدرسة راهبات الأنطونيّات، اقترحت لجنة الأهل بالتعاون مع البلديّة افتتاح المدرسة الصيفيّة لحضّ الطلّاب على العودة تباعاً، بالرغم من رفض الوزارة، إلّا أنّ التجربة بدت ناجحة، خصوصاً وأنّ رميش لم تتعرّض للقصف مباشرةً منذ بدء الحرب.
هذه التجربة الصيفيّة دفعت الأهالي إلى "رفع كتاب إلى الوزارة لإعادة افتتاح المدرسة حضوريّاً على مسؤوليّاتهم"، بحسب ما تقول مايا، مضيفةً لـ"النهار": "هناك اتّجاه لقبول الطلب لأنّ الأهالي في معظمهم يرفضون إكمال العام الدراسيّ الثاني عبر الـ"أونلاين"، ولا يمكنني المخاطرة بالنزول إلى بيروت لتعليم أولادنا"، متسائلةً: "ماذا لو انتهت الحرب الشهر المقبل؟ فسنضطرّ إلى دفع قسط ثانٍ عند العودة إلى بلدتنا أو البقاء في بيروت قسراً لإكمال العام الدراسيّ، فيما مدخولنا الشهريّ المحدود لا يكفي لكلّ هذه التكاليف".
"هذا الجيل ظُلم دراسيّاً"، وسط حالة "حيرة" يعشيها ذووهم، فيما تؤكّد مايا أنّ "أقسى ما في الحرب هو الهمّ الكبير الذي نعيشه لتأمين تعليم مستدام لأولادنا، ولا أحد يتجرّأ بعد لشراء قرطاسيّة كاملة لأولاده في ظلّ الوضع السائد".
الحال في مدرسة سيّدة البشارة في رميش أيضاً ليست مماثلة، إذ إنّ حوالي 50 في المئة من طلابها هم من البلدات المجاورة كعيترون وحولا وميس الجبل وبنت جبيل وغيرها.
وبعد أخذ وردّ حول مصير العام الدراسيّ، أبلغ الأهالي اليوم بأنّ المدرسة ستفتح أبوابها "بمن حضر" مطلع تشرين الأوّل المقبل، "وسيتمّ تركيب كاميرات داخل الصفوف تُتيح للطّالب النازح المتابعة مباشرة خلال شرح الأساتذة، كإجراء بديل عن وسائل الـ"أونلاين" التقليديّة".
...
في جولة على مدارس أخرى في هذه الأقضية، نجد أنّ المدارس الكُبرى ذات الفروع المتعدّدة في لبنان، وضعت خططاً واضحة لعامها الدراسيّ الجديد منذ أشهر. إذ افتتحت "جمعيّة المبرات الخيريّة" فرعاً لثانويّتَي الإشراق في بنت جبيل، وعيسى بن مريم في الخيام، ضمن ثلاث مناطق لبنانيّة: معروب (صور)، وكفرجوز (النبطيّة)، وخلدة (بيروت)، ما يُتيح للطلّاب الالتحاق بواحدة من هذه المدارس الثلاث بحسب أماكن نزوحهم.
إلّا أنّ التحدّي الذي يواجه الأهالي يكمن في تنقّل أولادهم على الطرقات خصوصاً في محيط بلدة معروب حيث تكثّفت الاستهدافات الإسرائيليّة في الآونة الأخيرة، إضافة إلى تكلفة النقل التي ترتفع حُكماً كلّما بعدت المسافة الجغرافيّة بين المدرسة ومكان السكن. ناهيك عن الاضطرار أيضاً إلى ما يمكن وصفه بـ"النزوح التربويّ"، مثلما فعلت ريما (اسم مستعار)، التي نزحت من بنت جبيل إلى صور لتتمكّن من إلحاق أولادها بمدرسة المبرّات في معروب.
أمّا مدرسة القلبين الأقدسين في عين إبل فلم تتّخذ قرارها بعد، على أن يتقرّر مصير العام الجديد وفقاً لتطوّرات الحرب في الجنوب.
واقع المدارس الرسميّة
لا يزال مصير المدارس الرسميّة في الجنوب مجهولاً حتّى الساعة، فيما تبدو الأمور متّجهة إلى عدم فتح المدارس حضوريّاً، وإكمال التعليم "أونلاين". بحسب الأستاذة في التعليم الرسميّ رانيا الحاج، والمتابعة للشأن الاجتماعيّ والتربويّ في المنطقة، فقد "باشرت ثانويّتا عيناثا وميس الجبل التسجيل لحظة زيادة الأقساط، وهو ما يُشكّل عائقاً إضافيّاً للأهالي في تسديد الأقساط وعدم إمكانيّة إلحاق أولادهم بالتعليم "أونلاين" بسبب انقطاع الكهرباء المتواصل والكلّيّ عن المنطقة ما يؤثّر على مقوّمات الحياة"، أمّا "ثانويّات بنت جبيل وعيترون وعيتا الشعب، فلم تُبلّغ طلّابها بعد بأيّ قرار عن بدء التسجيل".
الإشكاليّة التي تواجه طلّاب المدارس الرسميّة أيضاً أنّ بعضها لا قدرة استيعابيّة له على استقبال الطلّاب النازحين من بلدات مجاورة، كمدرسة تبنين الرسميّة، إذ تُفيد الحاج بأنّ "المدرسة لا تستقبل إلّا النازحين من أهالي البلدة، بسبب الضغط الكبير والقدرة الاستيعابيّة للصفوف، فيما برز اقتراح لدى الإدارة في الاستعانة بمبانٍ إضافيّة وإلحاقها بالمدرسة، أو دمج الطلاب اللبنانيّين مع النازحين السوريّين في صفوف فترة بعد الظهر"، ولم يُحسَم الأمر حتّى الآن.
...
من جهتها، عانت ميرفت بزّي من قلق النزوح ثانية خلال التهديدات بإمكانيّة توسّع الحرب في شهر آب، بعدما نزحت وعائلتها من بنت جبيل إلى منزل ذويها في الضاحية الجنوبيّة أواخر عام 2023.
تؤكّد بزّي لـ"النهار" أنّه "لن أفرض على ابنتيَّ الدراسة عبر الـ"أونلاين" هذا العام أيضاً، لأنّها كانت تجربة متعبة جدّاً، وسأبحث عن مدرسة رسميّة حضوريّة في محيط الضاحية، فلا نريد ربط مصيرنا بمصير انتهاء الحرب، وقد أضعنا عاماً من عمرنا خلال حالة الترقّب".
وتضيف: "آليّة التسجيل لا تزال مبهمة حتّى الساعة، في انتظار قرار وزير التربية الذي قد يُلزم المدارس الرسميّة باستقبال النازحين".
إلى جانب مصير ابنتَيها، تواجه بزّي، الأستاذة المتعاقدة في التعليم المهنيّ، وزوجها الأستاذ في التعليم الثانويّ، ضبابيّة في مصيرهما العمليّ، إذ "ليس هناك آليّة واضحة لعملنا، ولا يعلم زوجي إن كان سيلتحق بأيّ مدرسة رسميّة في بيروت أم لا".
أيّام قليلة تفصلنا عن انطلاق عام دراسيّ خامس مضطرب في لبنان، ولا يزال أهالي قرى الجنوب يعانون تخبّطاً حتّى الساعة وهم عاجزون عن شراء كتب وقرطاسيّة لعدم جلاء المشهد، في وقت تصل أقساط بعض المدارس الخاصّة إلى ألف دولار، وتفوق ذلك في مدارس أخرى فرنسيّة. أمّا أولياء الأمور الصامدون في بيوتهم جنوباً، فيرزحون تحت وطأة تراجع سوق العمل وعدم توافر فرص حقيقيّة للمداخيل.