الأربعاء - 18 أيلول 2024
close menu

إعلان

مساهماً في حفظ الذاكرة الجماعية... فنّان حرفي يُخرج التاريخ من يديه نماذج معمارية لصروح زحلة - المعلقة

المصدر: "النهار"
دانيال خياط
.السيد نبيل علاء الدين أمام مجسّم لمبنى فندق عقل التراثي في زحلة.
.السيد نبيل علاء الدين أمام مجسّم لمبنى فندق عقل التراثي في زحلة.
A+ A-
كم من الناس يسعون من اجل إيجاد "السعادة الروحية" في ما يفعلون، وكم منهم من يجدونها؟
نبيل علاء الدين، الزحلي إبن المعلقة، يجد ما يصفه بأنه "سعادتي الروحية" في تصنيع الأعمال الحرفية الفنية، مستفيداً من كل ما يتوافر بين يديه من مواد، موهبة مارسها هواية، طوال سنوات عمله في صيانة الكهرباء في أحد المعامل، وواظب عليها بعد تقاعده. بحيث لا تكاد أن تخلو زاوية في بيته من قطعة ديكور خشبية من صنع يديه.
 
   
غير أن ما إشتهر به هو تصنيعه لنماذج عن البيوت والصروح التراثية في زحلة - المعلقة، بكل تفاصيلها المعمارية، مساهماً في حفظ الذاكرة الجماعية التي تصوغ الهوية الوطنية والمجتمعية، لكون الأمكنة شواهد على تاريخ الشعوب والمجتمعات. 
 
النموذج الأول الذي صنعه كان لمنزل آل سكاف، إذ لفته في خلال تأديته واجب العزاء مشهد المنزل ذي الطوابق الثلاثة، بواجهة القناطر الثلاثية القوس، والذي تطلّ عليه نافذة صالون الكنيسة في زحلة. من بعدها راح يتمشى في المدينة، ويلتقط الصور للعمارات التراثية، منها ما نفّذ نماذج لها، ومنها ما هو قيد التنفيذ. 
أبرز هذه العمارات: فندق قادري الكبير الذي شهد الحدث التاريخي لإعلان الجزال غورو ضم الأقضية الأربعة المسلوخة عن لبنان، أوتيل عقل، أوتيل أميركا وكلها تقع في "شارع البرازيل" الرئيسي في المدينة، تنتصب، منذ 1906 -1911، شواهد على النهضة التي عرفتها زحلة في حقبة المتصرفية، بحيث سمّاها الباحث الراحل خير المر "مدينة المتصرفية". الى نماذج لـ"السرايا القديمة" مقرّ بلدية زحلة- معلقة وتعنايل، كما كانت قبل توسعة مدخلها، محافظاً على البركة التي كانت تتوسّط فناءها الداخلي، الكلية الشرقية (1898) الصرح العلمي الذي خرّج أبرز شعراء المدينة ورجالاتها المجلّين في مضاميرهم، منزل الشاعر ميشال طراد في حوش الزراعنة، خمّارة كسارة (1857) التي شيّدها الآباء اليسوعيون... 
 
 
ما يحرص عليه نبيل علاء الدين، هو تنفيذ التفاصيل الدقيقة التي يستعيدها كما هي، من إبرازه لحجارة المبنى، الى شكل الدرابزون، مزراب المياه، الزجاج الملوّن وخلفه برادي الدانتيل، وحتى الـ   console  الحديد الذي كان يثبت في الماضي على واجهات المنازل لتمرير أسلاك الكهرباء، والموجود في واجهة منزل آل سابا واقعاً ونموذجاً. 
بعض النماذج يستعيد حال المبنى بحال أفضل من واقعه المهمل راهناً، وأخرى تستعيد ذاكرتها العمرانية بعد تجديدها، ومنها ما يوثّق للذاكرة الروائية كمبنى "لو بارون" Le Baron، وهي التسمية التي شكلت عنواناً لهذا المبنى في وسط المدينة، بعد أن طغى عليه إسم محل البلياردو الشهير الذي شغل طبقته الأرضية. تسمية ما عادت تعني شيئاً للأجيال الزحلية الناشئة، بعد أن زال "لو بارون" من الوجود، وتعاقبت مكانه حانات ومقاه تستدل بها هذه الأجيال، منها بتسميات إنكليزية كمؤشر على منحى الأجيال الطالعة في المدينة الفرنكوفونية نحو الإنكلوفونية، لغة وثقافة. 
 
 
بعض النماذج التي نفذها نبيل علاء الدين، تستعيد مبان أزيلت من الوجود لمصلحة عمارة جديدة، أو لتوسعة الطريق، كمثل مبنى "مدرسة الأحداث الرسمية" في المعلقة. وهي أولى المدارس الرسمية في المنطقة، بحسب نبيل، والتي كانت معروفة بإسم "مدرسة بحدوش" إنطلاقاً من العادة التي كانت سائدة بإطلاق إسم مدير المدرسة عليها. 
 
 
متعة التجوال بين هذه المباني- النموذج مع صانعها تكمن في روايته للحكاية التي ترافق كل مبنى، والمجسّدة بالتفاصيل التي إستعادها، كشجرة الكرز الى جانب مدرسته، "مدرسة بحدوش"، حيث كانت المعلمة تطلب منهم أن يأتوا إليها ببعض ثمارها. زالت المدرسة ومعها الأشجار التي أحاطت بها إلا من ذاكرة المبنى- النموذج الذي يخبر أيضاً، على لسان علاء الدين، عن زمن كان فيه النظام المدرسي يقضي بأن يغادر التلامذة المدرسة الى منازلهم فترة الظهيرة، من الساعة 12 ظهراً لغاية الثانية بعد الظهر، ليعودوا بعدها لإستكمال الدراسة حتى الرابعة عصراً.
 
 
أما عندما نصل الى العمارة التي جرى جرفها، بمحلاتها التي فاق عددها عشرين، بغرض توسعة ساحة المعلقة، والتي إحتضنت "أول بيت كتائبي" في المدينة، بحسب علاء الدين، فإنه يحملك بشرحه عن تفصيل صواني المونة التي إستعادها على سطيحة العمارة- النموذج، على تخيّل زوجة الشلفون وهي تفرد المونة التي تصنعها من بقايا الخضر والفاكهة غير المصرّفة في دكان زوجها أسفل المبنى الذي كانا يقطنانه. وأن تسمع صوت ندف الصوف من محل المنجد صبحي عطارة، وقد جُمعت في سلال أمام المحل، كما إستعاد مشهديتها، ليطغى عليها صوت دقّ البوظة العربية "الذي كان يملأ الساحة" من محل نمر الأسطا. 
 
 
زيارة نبيل علاء الدين في منزله ومحترفه في المعلقة رحلة في ذاتها. فما أن تترك طريق المعلقة-الكرك وتنحرف صعوداً في إتجاه الحيّ الذي يقطنه حتى تدخل في حيّز زمنيّ آخر. فمع صعودك الدرج، تعبر بيت سعدالله النجار، أو "سراي المحطة" كما كانت تعرف، نسبة الى محطة القطار التي كانت قائمة قبالته في المعلقة. تلك المحطة التي لم ينج من معالمها سوى خزان المياه، وقد أعاد نبيل تشكيل نموذج عنها كما كانت، بكل تفاصيلها، حتى الساعة المتدلية. ومع شرحه، نستدل على مكتب مدير المحطة، مكتب مساعده، مكتب قطع التذاكر... ولا عجب بمعرفته الوثيقة بالمحطة، فجدّه الخواجة ميشال تركمان شغل منصب مديرها.
 
 
تثير الدهشة معرفة أن منزل آل النجار الحجري التراثي المنتصب منذ عام 1773، كما أخبرنا الحفيد أندره نجار، والذي رمّمته العائلة وحافظت عليه بشكل بديع، قد مّر عليه العثمانيون والفرنسيون، وإستخدم سجناً ومخفراً للبوليس، لكن المبنى كما روايته سيشكلان الخلفية والسياق المثاليين، عندما ينفلش صفّ العسكر الذي صنّعه نبيل من الطبقات المعدنية للمشروبات الغازية. 
خلف هذا المبنى الذي يفرض نفسه معمارياً وتاريخياً، ينفتح الحيّ الذي يقطنه نبيل علاء الدين، كمثل جيب داخل المدينة بضجيجها وعماراتها المكدّسة طبقات. يتألف الحيّ من مجموعة من البيوت الترابية، المسكونة والمهجورة، القائمة بعد قناة جرّ مياه البردوني او "سِكر المعلقة"، للطبيعة مساحة فيه لتنمو من دون أن تنافسها العمارات الباطونية، يسوده هدوء متناسق مع خرير المياه في القناة والمستقطع بالتحية التي يلقيها العابرون في "زواميق" الحيّ الضيقة. فيسهل عليك أن تتصور القصة التي يرويها نبيل، عن أيام كانت تتراكم فيها الثلوج فوق أسطح البيوت الترابية، بحيث عند جرفها عنها تتكدس في "الزواميق" بين البيوت وتسدّها، فيتعين حفر درج جانبي في الثلج يسمح بالتنقل وخصوصاً للكبار في السن، فيما كانت شقاوة الفتوة تدفع صبية الحيّ الى حفر جورة في وسط المنحدر الثلجي وملئها بالمياه قبل إعادة طمرها، فخاً يسقط فيه من يغامر ويخرج في مسيره عن الدرج المحفور بالثلج.
 
 
يسكن نبيل علاء الدين، الأب والجد، مع زوجته التي تشاركه حبّه للتراث، في الطبقة العليا من المنزل العائلي التراثي، فيما يشغل محترفه غرفة من منزله الوالدي في الطبقة الأرضية. تقديره للبيوت الترابية التي هي في أساس العمران في المعلقة وزحلة، دفعه الى صناعة نماذج لخمسين بيتاً ترابياً في المعلقة، بينها منزل العائلة. وعندما تدخل محترفه، ستجد نفسك أمام قرية تجمع نماذج مختلفة لأنماط معمارية في لبنان والمنطقة العربية. 
الهواية التي يواظب عليها نبيل علاء الدين منذ بداياته، هي صناعة المغارة الميلادية، لما يعنيه له عيد الميلاد بمغارته وشجرته، على ما يقول. وقد شارك قبل ثلاث سنوات في مسابقة أجمل مغارة ميلادية، بحيث حوَل غرفة محترفه بكاملها قرية ميلادية من صنع يديه، وفاز بجائزة اللجنة للمغارة المميّزة.
"كالشاعر" تتفتح قريحته بحسب إلهامه ومزاجه، فيجلس لساعات، يواظب لأيام أو يبتعد كلياً. فهو يستخدم موهبته هواية "لتعبئة الوقت ولأجل الفن"، ولا يستبعد أن يستخدمها باباً لمدخول بعد أن جارت الأيام على البلاد والعباد. 
 
 
لكن المردود الأول والأخير له منها هو "السعادة الروحية" التي يجنيها وهو يعمل في محترفه، يجلس في منزله محاطاً بكل ما صنعته يداه، وبين المجموعات التي يهوى جمعها وبينها مجموعة "الكتب الأمهات" للشعراء منذ الجاهلية حتى النهضة. 
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم