اختلفت المشهدية العامة لمدينة زحلة منذ إرتفاع بناء كنيسة "سيدة الفرح" و"متحف المطران نيفن صيقلي" على ضهور زحلة الجنوبية الغربية، في جوار "مقام سيدة زحلة والبقاع"، صرحاً دينياً أرثوذكسياً مسكونياً، مِعلماً ثقافياً بتصميمها المعماري الذي يجمع ما بين الطرازين البيزنطي والروسي وبمتحفها الذي يحتوي كنوزاً تاريخية، وقطباً جاذباً للسياح.
حلمٌ حقّقه معتمد بطريركية إنطاكيا وسائر المشرق لدى بطريركية موسكو وسائر روسيا المتروبوليت نيفن صيقلي في مسقطه زحلة، "الدنيا كلها" كما يراها.
وباتت الصور الملتقطة لزحلة تؤرّخ ما قبل كنيسة "سيدة الفرح" وما بعدها. إذ تعانق بقببها المذهّبة "سيدة زحلة والبقاع" المرتفعة على برجها بعلو 75 متراً، وهذا ما إبتغاه صيقلي من إختياره للموقع: "أحببت أن تكون الكنيسة في موقع يعانق عذراء زحلة".
فما عاد المشهد يستقيم إلا بهما معاً، لتشكلا معاً أيقونة زحلية ترافق الزحليين والبقاعيين كلما نظروا الى البعيد، الى فوق، ضيقاً أو فرحاً. ليذكرنا بأنها "نظرة متبادلة، لأن العذراء بدورها تتطلع إلينا، كل نظرة لها تعود منها إلينا". ويقول: "تأكدوا أنها تعرف ما الذي نحتاجه وتساعدنا. لا تطلبوا منها هي تعرف ما حاجتكم".
قصة الكنيسة كما هندستها لصيقة بمسيرة المطران نيفن وشخصيته، هو الذي قضى القسم الأكبر من السنوات الـ 56 من إيكليريكيته في روسيا، ما بين الاتحاد السوفياتي وجمهورية روسيا الاتحادية، من دون أن يقطع صلاته بزحلة، يأتيها كل صيف وعند كل مناسبة، محافظاً على علاقته بناسها "الاتصال الدائم بالناس يُظهر المحبة، الكنيسة تعبّر عن حياة الناس، وغير مختصرة بين جدرانها".
أرثوذكسية مسكونية
هذه المفاهيم الايمانية، أرادها نيفن أن تتجسّد في "سيدة الفرح"، "كنيسة أرثوذكسية وكنيسة مسكونية في آن واحد، فقد طلبت من أخي مطران زحلة أن تكون الكنيسة مفتوحة لأسرار الزواج لكل أولاد الطوائف المسيحية".
زرعت بذار فكرة إنشاء الكنيسة في نفس المطران نيفن، بعدما أرسله معلمه المثلث الرحمة المتروبوليت نيفن سابا الى روسيا عام 1959 ليتعلم، "شاهدت الكنائس المتبقية أيام السوفيات، وذهلت بهذا الجمال، ونسبته بعقلي الى أنه إرتفاع الى السماء". مع إنهيار الإتحاد السوفياتي مطلع تسعينات القرن الماضي، وقرار الرئيس الروسي بوريس يلتسين إعادة بناء كنيسة "المسيح المخلص" التي هدمها ستالين، كان المطران نيفن موجوداً الى جانب البطريرك ألكسي، ورئيس الوزراء ورئيس بلدية موسكو لدى وضع حجر الأساس لها، محدّثا نفسه: "الله يعطينا لنبني كنيسة مثلها، وإن ليس بحجمها. ظلّت الفكرة بقلبي وبروحي وبتفكيري".
إرتفعت في 5 ستوات
فكان من عطاء الله، أنه في 22 أيلول 2019، وضع الى جانب بطريرك إنطاكيا وسائر المشرق يوحنا العاشر يازجي، والمتروبوليت أنطونيوس الصوري لأبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما، حجر الأساس لكنيسة "الفرح". وفي 29 أيلول الجاري سيجري تدشينها في احتفال كبير برعاية يوحنا العاشر ومشاركة البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، "على مستوى الفرح"، على أن تشارك في خدمة القداس جوقة روسية.
لماذا في زحلة، ولماذا تكريس الكنيسة لـ"سيدة الفرح"؟
"مدينتي هذه، عزيزة عليّ، أريد أن أحمل الفرح الى قلوب الناس، وهذه كنيسة الفرح". ويشرح: "في روسيا أيقونات متعددة تجسّد العجيبة المنسوبة إليها، وتسمى كل أيقونة على إسم المدينة التي جرت فيها العجيبة. أيقونة "سيدة الفرح غير المنتظر"، لا مدينة لها، إنها أيقونة عامة".
ويضيف: "هذا الفرح عشته أيام السوفيات عندما كنت أحتفل بعمادة المؤمنين وبإكليلهم، ولا أخاف الدولة، ضمن إطار مفهوم كنيستي ودستورها، أن الكنيسة منفصلة عن الدولة. فكنت أعمّد وأكلل من دون أن أعطي الأسماء، حتى لا تطرد الدولة أهالي المولود أو الزوجين من أشغالهم. كنت أصلي أمام الايقونة وكانت دائما معي، بشفاعتها لا ازال على قيد الحياة".
نضاله هذا أثمر مجموعة الأيقونات التي ستغني المتحف المشاد على إسمه تحت مبنى الكنيسة، والتي تفوق قيمتها المعنوية قيمتها المادية، إذ يروي أنه "منذ عام 1977، عندما أعمّد الأطفال كان أهلهم يأتون إليّ بأيقونة هدية. عام 1985 عندما اشيع أن الكنائس ستغلق، كانوا يقولون لي خذ هذه الايقونات وضعها في كنيستك، خوفاً من حرقها أو سرقتها. وقد أخرجتها بشهادات من خبراء متحف أندره ربولوف وبإجازات من وزارة الثقافة، 120 أيقونة، منها ما يعود الى القرن السابع عشر، فيها دموع الناس التي وقفت أمام هذه الأيقونات لمئات السنين".
هندسة الكنيسة والمتحف
يخطىء من يقول أن "سيدة الفرح" كنيسة روسية، بل هي "كنيسة إبنة بيئتها، دُمجت بتصميمها الهندسي في محيطها وإندمجت فيه"، كل تفصيل فيها له رمز ومعنى. وقد عهد نيفن بتصميمها الى المهندسة المعمارية كريستينا صيقلي التي برفقتها تعرّفنا على المعالم الهندسية لهذا الصرح.
هندسة الكنيسة كناية عن مزيج ما بين الهندسة الطابع الانطاكي من حيث التصميم وما بين الهندسة الروسية، من حيث العناصر النموذجية الروسية التي تميّزت بها وأعطتها فرادتها في لبنان والجوار.
في هذا الدمج الذي يشبه سيرة معتمد انطاكيا لدى معتمدية روسيا، إنطلقت كريستينا من منهج العمارة البيزنطية، حيث أن مسطّح الكنيسة مربع، ليرتفع البناء من الشكل المربع الى شكل دائري، بإستخدام الحنية الكروية pendentive، لتتركز فوقها القبة، بيزنطية في بدايتها، وتنتهي بالقبة الروسية. وأدخلت الضوء اليها بإضافة نوافذ مستطيلة في القبة الروسية، بحيث يشعر الداخل الى صحنها بالعلو وبالضوء الآتي من فوق، من حيث أيقونة "المسيح ضابط" الكل متصدّرة القبة، يحوطه على الزوايا الأربع الإنجيليون الاربعة. كما زودت القبة إنارة ليلية، فكانت النتيجة إنعكاس الأيقونة على الزجاج، وإنعكاس زحلة على القبب المذهّبة، بحسب الإنارة والضوء.
القبب الروسية، المعروفة بالـ onion domes، كانت ثمرة تنسيق كبير بين الفريق اللبناني لجهة رسم التصميم وتنفيذ الهيكل الحديدي، وبين المعمل الروسي الذي صنّع الألواح المعدنية المذهّبة والمطعّجة قِطعاً بحسب التصميم، والتي نقلت الى لبنان وجرى تركيبها كالفسيفساء على هيكل القبة، في ساحة الكنيسة، قبل رفعها. يعلو القبب الصليب الأرثوذكسي الروسي المثلث، والمتميّز بمسند القدمين المائل، صعوداً في إشارة الى لص اليمين الذي آمن فرفعه المصلوب معه، ونزولاً كمثل لص اليسار الذي سقط في الخطيئة. يحيط بالكنيسة الرواق المقنطر، وقد جرى تلبيسها بالحجر الجيري "بيج رويال" الموجود في طبيعتنا في لبنان. ويزيّنها القرميد في إشارة الى قرميد زحلة، لكن بالأزرق الذي يرمز الى ثوب العذراء، واستقدم هذا القرميد من البرتغال.
ومن التفاصيل التي تتميز بها الكنيسة، القبة الصغيرة التي تعتلي برج الجرس، بغرض الإضاءة على البرج بتفاصيله من "مسدسات" لبنانية الصنع من حيث التصميم والشكل واللون الأزرق الذي سجّل على إسم "سيدة الفرح". وكذلك فإن القبة الخلفية التي أضيفت على المبنى من تصنيع لبنانيين وتنفيذهم.
تخلو الكنيسة في داخلها من الأعمدة، التي تعوق الرؤية، وتنفتح على المشهد المبهر للأيقونات الجدارية والأيكونسطاص أو حامل الأيقونات، الذي يشكلّ النقطة المركزية للكنيسة. يقودك نحوه تلقائياً ممر من البلاط المطعّم بتصميم من تاريخ الفن الروسي، يبدأ من مدخل الكنيسة وصولاً الى الباب الملوكي، على أن تصطف على جانبيه المقاعد للمصلّين في صحن الكنيسة، خلافاً لتقليد روسيا التي تخلو كنائسها من المقاعد. الأرضية من بلاط رخام كارارا تنعكس عليها تصاميم الزجاج المعشّق للنوافذ التي آثرت المهندسة كريستينا أن تبقي على تصميمها ناعماً من حيث الشكل، وتغنيها بألوان من تدرّجات الأزرق، الى الأخضر المستخدم بالطراز الروسي، الأصفر الذي يعيدنا الى ذهبي القبب والأحمر الملوكي.
نفذت الأيكونسطاس عائلة روسية مختصة بالمجال، تتوزع أيقوناته بحسب الترتيب التقليدي الكنسي، ومن أيقوناته الأعياد السيدية، أيقونة "سيدة الفرح المنتظر"، وأيقونة لمار مارون، ويتميّز بأن قمته إستعادة للقبة الروسية. هذا التناغم بين الداخل والخارج، نجده أيضا في شكل الدرج الدائري نحو الـ tribune والذي يشبه النغمة، هذه النغمة التي تسمعها كلما دقّت أجراس الكنيسة السبعة، المتفاوتة الحجم، والتي صنعت في روسيا. وفي التقليد الروسي، تزوّد الكنائس أكثر من جرس، أما إختيار سبعة أجراس لهذه الكنيسة الزحلية، فلكونه رقم الكمال.
المتحف
تتبدل الأجواء لدى ولوج الدرج نزولاً نحو "متحف المطران نيفن صيقلي" الواقع تحت مبنى الكنيسة، إذ يساهم رخام ترافينتينو المستخدم، لوناً وحجماً، في تزخيم الأجواء التي إبتغتها كريستينا من تصميمه، "كمن يسبر الزمان". فمن غرفة اللوبي لإستقبال الزوار، الى غرفة العرض السمعي-البصري، تدلف في الممرات التي تغذي أحاسيس من الترقّب والخشوع، ينفتح بعدها المشهد على الصالة الكبرى التي تتوزع فيها الإيقونات الموضوعة ضمن إطر تُبرز قيمتها، والموزّعة لخلق شعور بالنزهة. يضم المتحف أيضاً قسماً إدارياً وتقنياً. ويمكن منه الولوج الى موقف للسيارات تحت الأرض والى الحدائق المحيطة بالكنيسة.
التحديات
تعاملت كريستينا وفريقها مع تحديات هندسية عدّة، أولها التحدي الإنشائي لوجود موقع الكنيسة على تلة، في المنطقة التي تزحل فيها التربة، مما إستلزم إستخدام mega structure، إن من حيث جدران الدعم الكبيرة، أو تثبيت 83 pile تحت الأساسات، الى تحدي الباطون، للإستفادة من المساحة والوزن الى أقصى حد، من دون استخدام أعمدة داخل الكنيسة.
كما توجب عليها التعامل مع تحدي مساحة الأض الضيقة نسبياً وإلزامية إحترام التراجعات، يضاف إليها إتجاه الكنيسة نحو الشرق، وفق التقليد الكنسي البيزنطي. لكنها نجحت بدفع كل الامكانات الى أقصى حدود سواء في إستغلال حجم الأرض، وإضفاء العظمة من حيث الإرتفاع والجمع بين الطرازين البيزنطي والروسي. فقامت الكنيسة مع أروقتها على مساحة 300 متر وارتفاع 33 متراً من أرضيتها الى قمة الصليب، وهو عمر المسيح متأنساً، تحوطها ساحة من 500 متر.
ذلك أنها تدرك أن المطران نيفن أودعها مسؤولية حلم عمره، وهي ممتنة لثقته وللفرصة التي "قلّة من يحظون بها". كريستينا صيقلي خريجة الهندسة المعمارية عام 2006 من الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة- ALBA في جامعة البلمند، لديها مكتبها الخاص مع شريكها غسان أبو مراد. عملت على المشروع 5 سنوات، وإستلزم منها بحثاً معمّقاً قبل بدئها بالتصميم، وقد تعاونت مع فريق كبير من المهندسين اللبنانيين لوضع دراسات المبنى القائم على معايير دولية من حيث الهيكل والإنشاءات، الكهرباء، الميكانيك والسلامة العامة. وتنفيذه مع شركة "كميل كفوري للهندسة" التي فازت بالمناقصة التي تقدمت إليها 7 شركات.
هذه الخبرات والقدرات اللبنانية آمن بها المطران نيفن، وأعطاها فرصة ستحملها الى آفاق أبعد، كمثل إيمانه الراسخ بلبنان. لكن الحديث عن لبنان، يحمل غمامة تترقرق في عينيه "انا يهمني نشر الفرح للناس في زحلة وكل لبنان، لأن كثر منا ليسوا فرحين". يحمل عتباً على نواب الأمة لأنهم "لا ينتبهون للجمهورية"، هو "زعلان من كل قلبي على ما يحصل".
فهل يخاف على لبنان وعلى مسيحييه؟
"لا أخاف طالما يوجد بكركي. المصطنع يزول، الشيوعية وقوتها ودباباتها وصواريخها زالت، لأنها كانت أمور مصطنعة لا تمت الى الشعب بصلة"، مذكراً بأن "الكنيسة ليست مبنى. يمكن ان تقفل المبنى وتمنع الدخول اليه وحتى تهدمه، كما فعل ستالين بكنيسة المخلص، لكن أنت لا تقدر على الكنيسة، لست في حجم الكنيسة".
المطران نيفن جاهد وساهم، وبعد 7 عقود أثمرت بذار حلمه، لزحلة ولبنان، كنيسة بمثابة "قنبلة إيمانية تفجّر المحبة والفرح".