النهار

هل خسرت أميركا فعلاً مع وساطة الصين بين السعودية وإيران؟
جورج عيسى
المصدر: "النهار"
هو اعتقاد شائع؛ لكنّ الأدلّة على ذلك ضعيفة.
هل خسرت أميركا فعلاً مع وساطة الصين بين السعودية وإيران؟
كبير الديبلوماسيين الإيرانيين وانغ يي يرأس اجتماعاً مغلقاً بين الوفد السعودي برئاسة مستشار الأمن القومي مساعد بن محمد العيبان والوفد الإيراني برئاسة أمين المجلس الأعلى للأمن القومي برئاسة علي شمخاني. (بيجينغ، 11 آذار 2023، شينخوا/أب)
A+   A-

كثيرة هي التساؤلات عن سبب عدم تمكّن الولايات المتحدة الأميركيّة من أن تسبق الصين إلى رعاية اتّفاق استئناف العلاقات الديبلوماسيّة بين المملكة العربيّة السعوديّة والجمهوريّة الإسلاميّة في إيران. بحسب تحليلات غير قليلة أيضاً، كان هناك جزم بـ"خسارة" أميركيّة في المنطقة لمصلحة الصين. لكنّ الواقع يجافي هذا المنحى إلى حدّ بعيد.

يتطلّب تحقّق مفهوم الخسارة أن تكون الولايات المتحدة والصين في حال من التنافس لإنجاح وساطاتهما. لم تعرض واشنطن أصلاً خدماتها الديبلوماسيّة، وفي جميع الأحوال، لم تكن إيران لتقبل بها. وليس السبب مرتبطاً فقط بخروج الولايات المتحدة من الاتّفاق النوويّ. فبعد أيّام قليلة من التوقيع عليه في 14 تموز 2015، قال المرشد الإيرانيّ علي خامنئي إنّ الاتفاق لن يغيّر سياسة إيران في مواجهة "الحكومة الأميركيّة المتغطرسة" ولا سياسة إيران لدعم "أصدقائها" في المنطقة. وكرّر أنّ بلاده لا تجري "أيّ حوار مع الولايات المتحدة حول المسائل الدوليّة والإقليميّة أو الثنائيّة".

مع أو بدون اتّفاق نوويّ، سيظلّ العداء للولايات المتحدة ركناً أساسيّاً في سياسة النظام الخارجيّة، بل علّة لوجوده. القبول بوساطة أميركيّة لحلّ قضيّة إقليميّة ترى طهران أنّها تعنى بمصالحها يعني فقداناً لإحدى سرديّاتها الأساسيّة. للتذكير، رفضت إيران حتى التفاوض بشكل مباشر مع الأميركيّين في فيينا حول برنامجها النوويّ منذ قرّرت الإدارة الحاليّة إحياء المحادثات. بالتالي، طالما أنّ أميركا لم تكن أساساً راعية سلام بين السعودية وإيران، يصعب القول إنّها "خسرت" أمام الصين. كلّ ما حدث مؤخّراً هو أنّ الصين ملأت فراغاً ديبلوماسيّاً بين ضفّتي الخليج لم ينازعها عليه أحد.

 

لكن ماذا عن تقرّب السعوديّة من الصين؟

تتعزّز الروابط السياسيّة والاقتصاديّة بين دول مجلس التعاون الخليجيّ والصين بالتزامن مع فتور سعوديّ-أميركيّ بالتحديد. ولا جدال في أنّ الفتور سبب أساسيّ في ازدياد التعاون بين السعوديّين والصينيّين. واضحٌ أيضاً أنّ حضور الرئيس الصينيّ شي جينبينغ إلى الرياض في كانون الأوّل من أجل إطلاق القمّة الخليجيّة-الصينيّة حجب بشكل أو بآخر حضور الرئيس الأميركيّ جو بايدن إلى قمّة جدّة للأمن والتنمية خلال الصيف. فالخلافات الأميركيّة-السعوديّة بشأن النظرة إلى إيران ومصالح السعوديّة القوميّة برّدت العلاقات الثنائيّة. لكن هل يعني هذا أنّ التقارب السعوديّ-الصينيّ موجّه ضدّ الولايات المتحدة نفسها؟ ليس بالضرورة.

ذكر الخبير في الاقتصاد السياسيّ الدوليّ أحمد القاروط والخبير في العقوبات والجغرافيا الاقتصاديّة علي أحمدي أسباباً متعدّدة تدعو واشنطن إلى قراءة التقارب السعوديّ-الصينيّ من زاوية سعي الرياض لا إلى إعطاء الصين موقعاً متقدّماً على الأميركيّين في الخليج العربيّ بل إلى تقييد إيران في الإقليم والمنظّمات الدوليّة مثل "بريكس" و"شنغهاي" و"مبادرة الحزام والطريق". بحسب رأيهما، لقد استثمرت السعوديّة وتستثمر في الدول والمحافل التي لاحظت فيها تمدّداً إيرانيّاً أكان في المنطقة أو حتى في آسيا ككلّ لقطع الطريق أمام استفادة طهران من هذا التمدّد.

عمليّاً، يبدو أنّ السعوديّة نجحت. صحيحٌ أنّ الصين تمكّنت من تحقيق الخرق الديبلوماسيّ عبر علاقات إيجابيّة مع الطرفين. لكنّ الصحيح أيضاً أنّ بيجينغ لا تقف على مسافة واحدة منهما. فروابط الصين مع السعوديّة والإمارات أقوى بكثير من روابطها مع إيران. وليس تبوّء المملكة المرتبة الأولى على صعيد الصادرات النفطيّة إلى بيجينغ سوى مثل بسيط على ذلك.

 

خدمة أميركيّة للصين

نقاط القوّة الأميركيّة غالباً ما تكون حاضرة في ديناميّات المنطقة حتى من دون أن تقصد واشنطن ذلك. ربّما ساهمت الولايات المتحدة بشكل غير مباشر في تمكين الصين من تحقيق دور الوسيط بنجاح. عدم مسارعة أميركا للعودة إلى الاتّفاق النوويّ عبر رفض بعض المطالب الإيرانيّة الحسّاسة جرّد طهران من ورقة قوّة أساسيّة: منح علاقتها مع الصين نوعاً من التوازن. لطالما سعت إيران إلى هذا التوازن تحت شعار "لا شرقيّة، لا غربيّة، جمهوريّة إسلاميّة". وطوال سنوات، رغبت إيران بعلاقات اقتصاديّة أكثر متانة مع الغرب للحصول على تكنولوجيا أفضل من التكنولوجيا الصينيّة أو الروسيّة. لكنّ فشلها في فتح قنوات مع الغربيّين حرمها من هذه الميزة. وعلاقة إيران المباشرة مع الصين لم تكن دوماً سهلة.

على سبيل المثال، دعت القمّة الخليجيّة-الصينيّة إيران والإمارات إلى التفاوض حول الجزر الثلاث التي احتلّتها إيران في السبعينات. أثار البيان غضباً كبيراً في طهران خصوصاً بين المحافظين الذين شعروا بابتعاد الصين عن بلادهم بشكل أكبر وتدخّلها في شؤونها الداخليّة. في الوقت نفسه، ومع توقّع فقدان روسيا تدريجياً قوّتها على المدى البعيد بفعل تعثّرها في الحرب على أوكرانيا، كان على إيران التشبّث بعلاقتها المتعِبة مع الصين كآخر داعم دوليّ لها. ساعد ذلك في قبولها باستئناف العلاقات الديبلوماسيّة مع السعوديّة.

لقد استفادت الصين من علاقتيها غير المتوازنتين مع السعودية وإيران كما استغلّت ضعف الأوراق الدوليّة بيد الأخيرة لتحقّق إنجازها الديبلوماسيّ. مع ذلك، وحتى إشعار آخر، لا تزال المظلّة الأمنيّة الأميركيّة في الخليج العربيّ شبه مطلقة.

 

وهو واقع لا رغبة لأحد بتغييره

ما من مؤشّرات إلى أنّ السعوديّة تطمح حاليّاً إلى استبدال المظلّة الأمنيّة الأميركيّة بأخرى صينيّة. الزميل في مركز بلفر للعلوم والعلاقات الدولية التابع لجامعة "هارفرد" والمحلّل السعوديّ محمّد اليحيى كتب في "فورين بوليسي" شهرَ كانون الأوّل أنّ "الخلط بين سوء التقدير الأميركيّ وعجز الولايات المتحدة أمر أحمق" وأنّ النظام العالميّ بقيادة أميركا "لا يمكن أن يُدمَّر على يد لاعب عالميّ، من ضمنه الصين". واعتبر أنّ مصيرَي الولايات المتحدة والسعودية "يبقيان متشابكين بشكل لا مفرّ منه".

وفي تحليل مشابه، لاحظ الدكتور جان-لو سمعان في "منتدى الخليج الدولي" أنّه "مع ما يقرب من 40 ألف جنديّ يتمركزون في جميع أنحاء المنطقة، تُقزِّم البصمة العسكريّة للولايات المتحدة أيّ شيء يمكن أن تجلبه بيجينغ إلى الطاولة في المستقبل المنظور". وأضاف: "علاوة على ذلك، لا يبدو أنّ الصين مهتمّة باستبدال الولايات المتحدة في أدوارها الأمنيّة الحاليّة".

 

نقطة أخيرة

تحتّم هذه المؤشّرات وسواها التعامل مع فرضيّة "خسارة" أميركيّة بعد الوساطة الصينيّة باعتبارها مبالغاً بها بالحدّ الأدنى وعلى الأرجح، خاطئة. بل إنّ هذه الوساطة قادرة حتى على إفادة الأميركيّين. إذا نجحت الصين بترسيخ تهدئة نسبيّة في المنطقة فقد تستفيد واشنطن من خلال تجنّب إرسال أصول عسكريّة إضافيّة إلى السعوديّة للدفاع عنها، وسط الانشغالات الأميركيّة في أوروبا وللمفارقة... في شرق آسيا أيضاً.

 

اقرأ في النهار Premium