"ما من مجموعة تضرب قواتنا ستفلت من العقاب". بهذه الكلمات أعلن وزير الدفاع الأميركيّ لويد أوستين عن توجيه الولايات المتحدة غارات عدّة على منشآت في سوريا تشغلها مجموعات تابعة للحرس الثوريّ. تمّ تنفيذ الغارات الجوّيّة "ردّاً على هجوم اليوم (الخميس) كما على سلسلة من الاعتداءات الحديثة ضدّ قوات التحالف في سوريا من قبل مجموعات مرتبطة بالحرس الثوري". تسبّبت الهجمات التي طالت منشأة صيانة في الحسكة بمقتل متعاقد أميركيّ وجرح آخر إضافة إلى جرح خمسة من أفراد الخدمة.
78 مرّة
بحسب قائد القيادة المركزيّة الأميركيّة الجنرال مايكل "إريك" كوريلا، هاجم وكلاء إيرانيّون القوّات الأميركيّة في العراق وسوريا 78 مرّة منذ كانون الثاني (يناير) 2021. يتزامن ذلك التاريخ مع استلام الرئيس الأميركيّ جو بايدن منصبه. واللافت في هذه المسألة أنّه على الرغم من العدد الكبير لهذه الهجمات، اختارت الإدارة الردّ في أربع مناسبات وحسب. أرسل "ضبط النفس" الأميركيّ إشارات لإيران مفادها أنّ واشنطن تريد تجنّب المواجهة معها.
بالتالي، واصلت إيران قصف القواعد الأميركيّة في العراق وسوريا بشكل متكرّر مراهنة على مساهمة هذه الضربات ولو جزئيّاً في دفع الولايات المتحدة إلى القبول بشروطها للعودة إلى الاتفاق النوويّ. وتعليقاً على الهجمات الانتقاميّة قال بايدن إنّ "الولايات المتحدة لا تسعى إلى نزاع مع إيران، لكن عليها أن تتوقّع منّا أن التحرّك بقوّة لحماية ناسنا".
قدرة الضربات الأميركيّة الأخيرة على توجيه رسالة ردع لإيران كانت محدودة إن لم تكن منعدمة بالرغم من أنّها تسبّبت بسقوط 19 مقاتلاً بحسب المرصد السوريّ لحقوق الإنسان. بعد الغارات الأميركيّة، ردّ مقاتلون موالون لإيران بإطلاق نحو 10 مقذوفات. وقال مسؤول أميركيّ لشبكة "سي بي أس" إنّه كان هناك ثلاث هجمات الجمعة على قواعد عسكريّة في سوريا عقب الغارات الأميركيّة الانتقاميّة وقد سقط من جرّاء أحد هذه الهجمات جريح أميركيّ.
"الردّ المتناسب"
لا تتفادى الإدارة الأميركيّة الردّ على الغالبيّة الساحقة من الهجمات على قواعدها العسكريّة وحسب. حتى مع الحالات التي تختار فيها الولايات المتحدة شنّ غارات انتقاميّة، يأتي الردّ الأميركيّ "متناسباً" مع الهجمات التي تعرّضت لها مصالحها. في بيانه الأخير، قال أوستين إنّ الولايات المتحدة ردّت بضربات دقيقة "متناسبة ومتعمّدة" على المنشآت التي يستخدمها وكلاء إيران. وحين سئل بايدن عمّا إذا كان ينبغي فرض أكلاف أعلى على إيران أجاب: "نحن لن نتوقّف".
يطرح الردّ "المتناسب" علامات استفهام متكرّرة عن قدرته على ردع إيران. في الواقع، لم يعتقد بايدن وحده أنّ الردّ المتناسب كفيل بتحقيق الردع الذي تنشده الولايات المتحدة. حتى الرئيس السابق دونالد ترامب الذي عرف بتشدّده مع الإيرانيّين أجرى في بعض المراحل حسابات بناء على هذه القاعدة. في 20 حزيران 2019، أسقطت إيران مسيّرة أميركيّة من طراز "آر كيو-4 غلوبال هوك" بواسطة صاروخ أرض-جوّ. قالت إدارة ترامب إنّ المسيّرة كانت تحلّق في الأجواء الدوليّة. مع ذلك، رفض الرئيس السابق الموافقة على خطّة لتوجيه ضربة انتقاميّة قائلاً إنّها كانت ستحصد العديد من الأرواح وإنّها "لم تكن متناسبة مع إسقاط طائرة بلا طيّار غير مسلّحة". اكتفى ترامب بفرض عقوبات على المرشد الأعلى علي خامنئي ومسؤولين آخرين شملت "مليارات" الدولارات من أصولهم بحسب وزارة الخزانة.
مع ذلك، قال ترامب بعد إسقاط المسيّرة إنّه لا يزال يتطلّع إلى إبرام اتّفاق جديد مع طهران.
لم تتأخّر نتيجة سياسة ترامب بالظهور. بعد أقلّ من ثلاثة أشهر، شنّت مجموعات مرتبطة بإيران هجمات كبيرة على المنشآت النفطيّة التابعة لـ"آرامكو". مجدّداً، اختارت إدارة ترامب العقوبات عوضاً عن التحرّك العسكريّ. أفقد ذلك ثقة حلفاء الولايات المتحدة الإقليميّين وفي مقدّمتهم الرياض بنيّتها الدفاع عنهم، حتى بات يمكن القول إنّ تنويع الخليج لشركائه الدوليّين بدأ إلى حدّ كبير أو تسارع على الأقلّ منذ تلك اللحظة.
مخاوف من خسائر إضافيّة
في جميع تلك الأمثلة، كانت كلفة الخطوات الأميركيّة محدودة على الإيرانيّين، أقلّه بحسب التصوّر الإيرانيّ. ولهذا السبب فشلت الردود الأميركيّة "المتناسبة" في وقف طهران عن التصعيد. فإيران ترى أنّ الأذى الذي تسبّبه هجماتها للأميركيّين أكبر من الأذى الذي يلحق بها من جرّاء العقوبات الأميركيّة، والحديث هنا عن المدى القصير. من جهة ثانية، تستطيع إيران الالتفاف على بعض العقوبات خصوصاً حين تغضّ أميركا الطرف عن تطبيقها، كما هي الحال مع إدارة بايدن. إلى جانب كلّ ذلك، ليست إيران من يتكبّد الخسائر البشريّة الناجمة عن الغارات الأميركيّة بل المجموعات الموالية لها في المنطقة.
لهذا السبب، غالباً ما تكون إيران متقدّمة على واشنطن في لعبة تخطي الردع. في الوقت نفسه، إنّ طبيعة الإشارات التي توجّهها واشنطن إلى طهران، والتي تلتقطها الأخيرة كإشارات ضعف، ليست محصورة في النطاق العسكريّ. فبالرغم مثلاً من الأنباء التي صدرت في شباط عن التسريع الكبير لبرنامج إيران النوويّ، لم تسعَ واشنطن في مجلس المحافظين التابع للوكالة الدوليّة للطاقة الذرّيّة إلى توجيه لوم إلى طهران.
في هذا الإطار، شاطرت هيئة التحرير في صحيفة "وول ستريت جورنال" السيناتور ليندزي غراهام مخاوفه من أن تتسبّب "ردود ضعيفة ومتردّدة إضافيّة بالمزيد من الوفيات الأميركيّة وبزيادة جرأة أعدائنا". بالنسبة إلى الصحيفة، إنّ "إيران وأعداء آخرين يستنتجون أنّ الولايات المتحدة تريد الخروج من الشرق الأوسط وهم على استعداد لتحفيز الخروج من خلال إلحاق الإصابات" بالقوّات الأميركيّة. لذلك، طالبت بايدن وأوستين بـ"زرع الخوف في قلوب أعدائنا من أنّهم إذا هاجموا الأميركيّين، فسيقابلون بردّ مدمّر وقاتل".
لكنّ بايدن يخشى من أنّ ردّاً مدمّراً قد يطيح آخر احتمالات إعادة إحياء الاتّفاق النوويّ والتي يبدو أنّها لا تزال ضمن أولويّاته حاليّاً. وفي الوقت نفسه، ما من مؤشّرات إلى رغبة لدى الإدارة بسحب قوّاتها من سوريا والعراق (نحو 3400 عنصر) في المدى المنظور. وليس مستبعداً من جهة أخرى أن تستغلّ إيران انشغال الولايات المتحدة بالملفّين الأوكرانيّ والصينيّ كي تزيد ضغطها على الأميركيّين في العراق وسوريا. ربّما تبيّن المرحلة المقبلة مدى استعداد واشنطن لمواصلة تبنّي سياسة "الردّ المتناسب" لحماية جنودها؛ هذا التبنّي الذي سيعطي إيران على الأرجح هامش تحرّك أكبر في الإقليم، وربّما في فيينّا.