اشتباكات دامية شهدتها محافظة السويداء في الجنوب السوري يومي الثلثاء والأربعاء من الأسبوع الماضي، سقط ضحيتها 23 مسلّحاً، وخرقت الهدوء النسبي مقارنةً بمحافظات أخرى دمّرتها الحرب السورية وسوّتها أرضاً، وهو الهدوء الذي شهدته المحافطة منذ العام 2018، حينما نفّذ تنظيم "داعش" هجومه الدموي الغادر.
وقعت الاشتباكات بين حركة "رجال الكرامة" وأهالي منطقة السويداء، ذات الغالبية الدرزية، من جهة، وجماعة مسلّحة يرأسها راجي فلحوط مقرّبة من النظام السوري وشعبة المخابرات العسكرية، من جهة أخرى، على إثر انتفاضة شعبية قام بها أهالي المحافظة نتيجة ممارسات فلحوط وعناصره.
ما سبب الأحداث الدموية؟
وفي التفاصيل، فإنّ شرارة المواجهات تعود إلى يوم السبت 23 تموز، حينما أقدمت جماعة فلحوط على خطف الشاب الدرزي جاد الطويل من محلّه في بلدة شهبا، في تصرّف يندرج ضمن سلسلة انتهاكات تقوم بها الجماعة بشكل مستمرّ منذ فترة، وتتمثّل بالخطف، التعذيب، السرقة، ترويج المخدرات والقتل، مع العلم أنّ الشاب المخطوف حسن السمعة لا إشكالات تشوب سجلّه.
(الشاب جاد الطويل بعد تحريره)
ردّت عائلة الشاب بالمثل، وهي أكبر العائلات في قرى الريف الشمالي للمحافظة، لا بل صعّدت، فخطفت أربعة ضباط يتبعون للنظام السوري، وقامت بقطع الطريق الذي يربط السويداء بدمشق. عندها، تدخّل عقلاء المنطقة والمشايخ الدروز، وتوسطّوا بين الطرفين فتوصّلوا إلى اتفاق يقضي بإعادة جاد الطويل إلى قريته، مقابل الإفراج عن الضباط الأربعة وفتح الطريق المقطوع، فكان ذلك ما حصل في اليوم التالي.
إلّا أنّ جماعة فلحوط لم ترضَ بالتسوية، فاستمرّت بانتهاكاتها المعروفة وقامت بخطف 15 مدنياً على الهوية، بينهم شبان جامعيّون من مناطق عديدة في المحافظة، على حواجز أقامتها، وكان ذلك إشارةً منها إلى أنّها لن ترضى بتثبيت معادلة جديدة في المنطقة. فانطلقت انتفاضة شعبية من مختلف المناطق يوم الثلثاء، وتوافد الشبان والمشايخ بأسلحتهم وتوجّهوا إلى مركز راجي فلحوط في بلدة سليم، حيث وقعت اشتباكات عنيفة، فانضمت حركة "رجال الكرامة" إلى صفوف الأهالي، وكان تدخّلها حاسماً، فسقط الموقع بعد مقاومة شرسة من المسلحين، الذين قضى في صفوفهم 6 قتلى، فيما أُسر الأخرون، وتمّ تحرير كافة المخطوفين.
تمكّن فلحوط من الهرب إلى منزله في بلدة عتيل، وهو موقع عسكري محصّن، برفقة عدد من عناصر جماعته، إلّا أنّ الموقع ما لبث أن سقط بعدما لحق به عناصر حركة "رجال الكرامة" والأهالي، فقُتل عناصر آخرون من صفوف الجماعة، وتمّ أسر باقي المسلّحين، إلّا أنّ فلحوط نجح بالفرار مرّة أخرى رفقة اثنين من أقاربه. وقضى 5 من الأهالي في المعركتين.
لكنّ المفارقة كانت مع اكتشاف مصنع لتصنيع المخدرات والكبتاغون داخل منزل فلحوط في بلدة عتيل، كما والعثور على بطاقة أمنية لفلحوط توثّق ارتباطه وجماعته بالفرع 217 التابع للمخابرات العسكرية.
وكان من المفترض تسليم كافة أسرى الجماعة إلى آل الطويل، إلّا أنّ مجموعة مسلّحة - مجهولة الهوية - في صفوف الأهالي أعدمت 6 أسرى بالرصاص في ساحة السويداء، وهو الأمر الذي رفضه أبناء المنطقة وتبرّأ منه الجميع، فيما لم تُعرف هوية الجهة المنفّذة، وتضاربت الروايات. وتمّ تسليم باقي الأسرى للعائلة المذكورة، التي بدورها سلّمت من تورّط بالدماء إلى النيابة العامة، وأفرجت عن آخرين لم يكن لهم دور في الاشتباكات.
وتُنفّذ حركة "رجال الكرامة" يومياً مداهمات وتُلقي القبض على المزيد من المتعاونين مع فلحوط، مع العلم أنّ المئات من عناصرها شارك في الاشتباكات التي استمرّت يومين.
اقتتال درزي – درزي واتّهامات بالتواطؤ؟
وفيما ساد اعتقاد أنّ ما حصل كان بمثابة اقتتال درزي – درزي، خصوصاً وأنّ فلحوط وعدداً من عناصره ينتمون إلى طائفة الموحدين الدروز، إلّا أنّ ذلك مجافٍ للواقع وفق ما تؤكّد أوساط محلية، وتلفت إلى أن "النظام السوري يحاول تسويق هذا السيناريو، إلّا أن ما من انقسام بين أهالي المنطقة، بل إجماع على الاتحاد فيما بينهم وعدم الانخراط في الحرب، وهو الأمر الذي أثبتوه منذ زمن، أمّا جماعة فلحوط، فهي لا تضمّ إلّا عدداً قليلاً من الشبان الذين انضمّوا إليها لقاء بدل مادي، وبالتالي الاشتباك كان بين الأهالي وجماعة تتبع للنظام السوري".
كما أنّ محاولات مشبوهة جرت لاتهام حركة "رجال الكرامة" بتهريب فلحوط، إلّا أن مصادر محلية عديدة في السويداء نفت ذلك، وأشارت إلى أن "الاتهام غير منطقي، خصوصاً وأن توجهات الحركة معروفة سلفاً، ولا مصلحة لها بالقيام بهذا الفعل، كما أنها تتأسس من شبان ينتمون إلى المنطقة وعائلاتها، التي خُطف منها المدنيون، فكيف يهرّب هؤلاء خاطف أهلهم؟ وإلى ذلك، فإنّ الحركة هاجمت مقرّات فلحوط برفقة الأهالي، فكيف لها أن تهرّب فلحوط؟ الاتهام برمّته ليس منطقياً ولا مبنياً على وقائع". وذكرت أنّ "النظام السوري ومخابراته يقفون وراء هذه التلفيقات لإحداث الشرخ داخل المجتمع الدرزي في السويداء لا أكثر، وهو ما اعتدنا عليه".
من هي جماعة فلحوط وما دورها؟
بعد انطلاق الحرب في سوريا، تمّ تسليم منطقة السويداء إلى جهاز المخابرات العسكرية للإشراف عليها، وتولّى العميد وفيق ناصر ملفّ المحافظة بشكل خاص منذ العام 2012 وحتى 2018، لكن انتهاكات عديدة سُجّلت في فترته، منها اغتيال قوات النظام للشيخ أبو فهد وحيد البلعوس، مؤسس حركة "رجال الكرامة" والمعروف بمواقفه المتمايزة عن النظام السوري، وتم تفجير المستشفى الوطني للتأكّد من وفاته، كما كان لـ"حزب الله" دور رئيسي في المنطقة قبل أن ينسحب منها في نتيجة تسوية، وفق ما يقول مسؤول التحرير في موقع "السويداء 24"، ريان معروف.
ويشير معروف إلى أنّ "في العام 2018، تم نقل ناصر إلى محافظة حماة، وتسلّم ملف السويداء اللواء كفاح الملحم، الذي اعتمد سياسةً مغايرة، تقوم على تفادي الصدام المباشر مع أهل المنطقة وتنظيم العصابات والميليشيات المسلّحة التي تُسيطر أمنياً وتقوم بالممارسات كما الانتهاكات التي يريدها النظام السوري، من خطف وقتل وغيرها، وذلك بالتعاون بين النظام الجماعات الإيرانية، و"حزب الله" منها".
وكانت جماعة فلحوط الأقوى بين عصابات النظام في المحافطة، والأكثر تجهيزاً لجهة المقاتلين والأسلحة والسيارات، وفق ما يكشف معروف، الذي يشير إلى أنها كانت العمود الفقري لباقي العصابات المرتبطة عضوياً فيها. وهنا، يذكر معروف أنّ "حزب الله" يقف خلف تدريب المقاتلين وتجهيز المراكز والتحصينات.
ويقول إنّ "باقي العصابات باتت كرتونية بعد اجتثاث عصابة فلحوط، ويختبئ عناصرها خوفاً من مواجهة المصير نفسه، حتى أن بعضهم توسّط لدى المشايخ والعقلاء لتحييدهم عن أيّ اعتقالات، ويتعهّد بعدم الانخراط بأيّ أعمال تضرّ بالمحافظة وأهلها. وفي هذا الصدد، تستكمل حركة "رجال الكرامة" اعتقالاتها وعملياتها الأمنية للتأكّد من التخلّص من العصابة بشكل كامل".
أمّا وعن شخص فلحوط، فيكشف معروف أنّه من أبناء المنطقة، ودرزي بشكل خاص، لكنّه طفل النظام المدلّل، والأخير اختار رئيس العصابة درزيّاً تحديداً بهدف خرق هذه البيئة وتطويعها، بحكم أنّ الدروز لن يتقاتلوا بين بعضهم، فيفرض انطلاقاً من هذا المبدأ أجندته في إحكام السيطرة على المحافظة من خلال هذه العصابة.
حاولت هذه الجماعة جذب الشباب من خلال المال والمخدرات، فاستثمرت في الضيقة الاقتصادية التي يعيشونها، وعدم قدرتهم على الخروج من المحافظة والعمل في العاصمة لأنّهم مطلوبون للخدمة الإجبارية (للسويداء حالة خاصة لجهة التجنيد الإجباري سنوردها لاحقاً)، مع العلم أنّ الرواتب لا تتعدّى الـ25 دولاراً، فيما المبالغ التي دُفعت أكبر بكثير، فالتحق عدد من الشبان بهذه الجماعات، وفق ما يروي معروف.
وتورّط هؤلاء الشبان بصناعة المخدرات وترويجها كما تهريبها إلى الأردن، فضلاً عن الانتهاكات الأخرى التي مارستها الجماعة بحقّ الأهالي.
ماذا يريد النظام السوريّ من السويداء؟
من المعلوم أنّ الجنوب السوري منطقة استراتيجية، وهي على الحدود مع الأردن وفلسطين المحتلّة. يسيطر النظام وحلفاؤه على هذه المنطقة، وفيما كانت درعا من حصّة روسيا، فإنّ السويداء كانت من حصّة إيران وجماعاتها. وانطلاقاً من اعتماده على صناعة المخدرات كاقتصاد حرب، وهذا ما أثبتته الأرقام والاحصاءات العالمية، يستفيد النظام السوري من منطقة السويداء لتهريب المخدرات إلى الأردن لجني الأمول، الأمر الذي يؤكّده معروف ويربطه بوجود الجماعات الإيرانية أيضاً، وهو ما توثّقه الوثائق التي وُجدت مكان إقامة فلحوط، حسب معروف.
ويستطرد في هذا السياق، "إنّ إبقاء المنطقة في حالة فوضى منطّمة يديرها النظام السوري هو الهدف، ويمكّنه ذلك من تنفيذ مخططاته التي تكمن في تهريب المخدرات إلى الأردن من جهة، وتنفيذ الانتهاكات في حقّ أهالي المنطقة من جهة أخرى، فيما السيطرة بشكل مباشر عليها لا تخدم رؤيته".
إلى ذلك، يريد النظام السوري الانتقام من منطقة السويداء وأهلها الذين لم يساندوه طيلة سنوات الحرب، فشبان المنطقة كانوا معفيين من التجنيد الإجباري لكنّهم ممنوعون من الخروج منها، وبالتالي أهلها لم ينخرطوا في قتال السوريين، كما اتخذوا مواقف متمايزة عن النظام، رفضت الحرب، ودعت إلى الشروع بالإصلاحات، واتّهمت النظام بالتخلّف عن تنفيذها، وخرجت تظاهرات في هذا الصدد.
ولا شكّ أنّ قرب المنطقة من فلسطين المحتلة كان عامل طمع إيران وجماعاتها في السيطرة عليها، وهي قد تستفيد منها في حال اندلاع مواجهات مع إسرائيل.
رسائل قوية وجماعات جديدة؟
يستطيع النظام السوري تشكيل جماعة أخرى وتسليحها لتحلّ مكان جماعة فلحوط، وهو الأمر المتوقّع، لأنّه لن يدع المحافظة وشأنها، ومن المرتقب أن يتشدّد أكثر في إحكام القبضة الأمنية بعد الاشتباكات الأخيرة التي حصلت والتمرّد الأهلي عليه.
إلّا أنّ معروف يرى أنّ الأهالي وحركة "رجال الكرامة" وجّهوا رسالتين قويتين وشديدتي اللهجة، الأولى للنظام، ومفادها أنّ الانتهاكات والتعرّض للكرامات ممنوع، بل المطلوب عودة الضابطة العدلية إلى المنطقة والأجهزة القضائية، والثانية لأبناء المنطقة الذين كانوا يفكّرون في الانضمام إلى هذه الجماعات، وما حصل سيدفعهم إلى التفكير ملياً قبل اتّخاذ هذا القرار، وقد يثنيهم عن الالتحاق بها.
الذاكرة تعود إلى مجزرة "داعش"
يحاول النظام السوري إحكام قبضته الأمنية على المنطقة من خلال هذه العصابات، ولا يتوانى عن توجيه الرسائل في كلّ مرّة لا تسير الأمور كما خطّط لها.
في 25 تموز من العام 2018، نفّذ تنظيم "داعش" هجوماً دموياً غادراً في ساعات الفجر، وقتل أكثر من 250 شخصاً، معظهم نساء وأطفال. استطاعت حركة "رجال الكرامة" دحر التنظيم من المنطقة وقتل العناصر المنفّذة للهجوم، إلّا أنّ ردّة الفعل جاءت متأخرة فقضى من قضى، لأنّ الحركة والأهالي لم يكونوا جاهزين لأيّ هجوم، على اعتبار أنّ قوات النظام السوري تتولّى أمن المنطقة.
وفي المعلومات، فإنّ الهجوم حصل بـ"قبّة باط" من النظام، الذي قطع التيار الكهربائي عن المنطقة لبضع ساعات فجر ذلك اليوم وبشكل مفاجئ، ليحصل بعدها الهجوم.
لم يكن الهدف منه تصفية قيادات أو مقاتلي حركة "رجال الكرامة"، لأنّ الهجوم استهدف النساء والأطفال، بل كان إيصال رسالة إلى من يعنيه الأمر في المحافطة، مفادها أنّ النظام يسيطر على هذه المنطقة، وأيّ مواقف لا تصبّ في صالحه سيكون لها عواقب وخيمة.
ما هي حركة "رجال الكرامة"
أسّس الشيخ أبو فهد وحيد البلعوس هذه الحركة، برفقة عدد كبير من المشايخ الدروز، وضمّت عشرات الآلاف من المقاتلين. لم يكن الهدف منها الانخراط في الحرب الأهلية الدائرة، خصوصاً وأنّ أهالي المنطقة اتخذوا موقفاً واضحاً منذ إنطلاقة الحرب، يقوم على عدم الانخراط في إراقة الدماء وقتال السوريين، ولم يتخذوا طرفاً، إلّا أنّهم لم يعادوا النظام السوري، لكنّهم لم ينكروا الحاجة إلى تنفيذ إصلاحات واسعة في البلاد.
كان الهدف من الحركة إيجاد فصيل مسلّح ومدرّب في المنطقة، جاهز للتصدّي لأيّ اعتداء تتعرّض له، كما تأطير الشبان في تنظيم مسلّح حيادي بدل الانخراط في الحرب السورية.
قضى البلعوس في تفجير سيارته في الرابع من أيلول من العام 2015، ويتولّى الشيخ أبو حسن يحيى الحجّار قيادة الجماعة منذ العام 2017، وتُعبر الحركة أقوى الفصائل العسكرية في المنطقة.